أخبار اليوم

بعد 1000 عام على الانتصار الكبير واستعادة القدس.. قصة حـ.ـرب تحـ.ـرير دامت قـ.ـرنين

بعد 1000 عام على الانتصار الكبير واستعادة القدس.. قصة حـ.ـرب تحـ.ـرير دامت قـ.ـرنين

أخبار اليوم

فريق المتابعة والتحـ.ـرير

لقد أنقذتم “المسجد الأقصى الذي.. هو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين..؛ فطوبَى لكم من جـ.ـيش ظهرت على أيديكم المعـ.ـجزات النبوية والوقعات البدْرية، والفـ.ـتوحات العمرية، والجيوش العثمانية! جددتم للإسلام أيام القادسية والمـ.ـلاحم اليرموكية، والمـ.ـنازلات الخيبرية، والهـ.ـجمات الخالدية؛ فجزاكم الله عن نبيه محمد ﷺ أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مُهَـ.ـجِكم في مقـ.ـارعة الأعـ.ـداء”!!

جاءت تلك العبارات في “خطبة الفتح” التي ألقاها قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي الشافعي (ت 598هـ/1105م) بمحضر السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م)، في أول جمعة أقيمت بالمسجد الأقصى بعد تحـ.ـريره من الصليبيين سنة 583هـ/1187م. لكن ما قصة هذه الفتح وما تلاه من فتـ.ـوح؟ وما قصة حـ.ـرب التحرير الكبرى التي امتدت قـ.ـرنين كاملين تسلم فيهما الراية جيل من جيل؟ وما هي العوامل السياسية والعسكرية والدينية التي شكلت معالم تلك المقـ.ـاومة الحضارية الكبرى؟

إن هذا المقال -الذي يأتي في ذكرى مرور 950 سنة هجرية على بدء الاحـ.ـتلال الصليبي للمنطقة و750 سنة على تطهيرها منه- يحاول أن يجيب على تلك الأسئلة؛ فقصة حـ.ـرب التحرير لم تكن قصة مَلِك ولا حكاية شعب، بل هي ملحـ.ـمة كبرى التأمت خطوطها وخيوطها بالتدريج، فكان أول تجلياتها هو انقـ.ـداح زنـ.ـاد جيوب المقـ.ـاومة في لحظة الاستـ.ـباحة، معلنةً أن الأمة قررت ألا تعـ.ـترف بالهـ.ـزيمة في وقت الهـ.ـزيمة!

وللتصدي للتحدي الصليبي المقتـ.ـحم؛ تم وضع مخططات طويلة المدى لأمة يجب أن تتحرر في ميـ.ـادين الوعي أولا قبل ساحات القـ.ـتال، مع فهم واسع لمضامين التحرر التي كان أعلاها التوحيد وثمرتها هي التحرير، وكان قطب ذلك كله طـ.ـلائع من عظماء الزعماء في بيوت الإمارة بدءا من قادة السلاجقة في الموصل بالعراق، ثم آل زنكي في الشام الذين وضعوا “خريطة طريق” للتحرير تبدأ بتوحيد القـ.ـوى الإسـ.ـلامية في الشام ومصر بعد تصفية البؤر السياسية المتخـ.ـاذلة، وتُعزز بفكرة الإصلاح الديني والمذهبي والتنموي الشامل الذي يقوم على تمكين العلماء المصلحين والخبراء المخلصين.

ثم امتد الأثر الزنكي مع الأيوبيين الذين استنبتوا جذور هذا المشروع في مصر ضمن أخـ.ـطر عملية تحول تاريخي، وفي أيامهم تمت إعادة الاعتبار إلى الأقصى باعتباره “ثالث الحرمين الشريفين”؛ وهذا يعني تحصين قضية القدس في قلوب المسلمين بالعناية الروحية والدينية البالغة. ورغم ما شهدته معـ.ـركة التحرير من نكـ.ـسات وتجدد لها من عـ.ـثرات؛ فإنها واصلت المسير بزخم معتبر حتى تسلمت دولة المماليك رايتها، فبنى قادتها على الخطة الكبرى المتسلسلة وصولا بها إلى الحســ.ـم الكلي للصـ.ـراع.

وبذلك النشاط المقـ.ـاوم المتلاحق الأجيال والأفعال؛ تطهرت المنطقة العربية والإسلامية بالشام ومصر من الاحـ.ـتلال الصليبي قرابة خمسة قـ.ـرون، إلى أن سوّلت للإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت (ت 1236هـ/1821م) نفسُه أن يجدد عادة بلاده في إذكاء جذوة الحـ.ـروب الصليبية بحملته على مصر وسواحل الشام سنة 1212هـ/1797م.

ولم يكن ذلك حقا بالأمر الغريب على الفرنسيين، إذْ ما “كانت الحـ.ـرب الصليبية الأولى في الأغلب الأعم [إلا] مغامرة فرنسية”؛ كما يقول مؤرخ الحضارات الأميركي وِيلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) في ‘قصة الحضارة‘. وكذلك ليس الاحـ.ـتلال الإسرائيلي اليوم لفلسطين سوى “مغامرة غربية”، حل فيها المكر الصهيوني مكان الكيد الصليبي فقلده في طرق الامتداد ووسائل الإمداد!!

ولذا فإن قصة حـ.ـرب التحرير الكبرى هذه ملحـ.ــمة ملهمة في دلالتها على طُرق اكتساب مقومات النصر، وعوامل التغلب على مسارب الهـ.ـزيمة، وبيان أن مشاريع نهضة الأمة قد تختلف تفاصيلها وعياً وسعياً، لكنها تتفق في الجوهر والمضمون: التوحيد والتحرير!!

مشهد فوضوي
خلال نصف القـ.ـرن الذي سبق هجمة الاحـ.ــتلال الصليبي لمناطق واسعة من جغرافية المشرق العربي الإسلامي (440-490هـ/1049-1099م)؛ اتّسم المشهد السياسي في هذه المنطقة بالفوضى والتناحر والانقسام. ففي بدايات تلك الحقبة اختفت الدولة البويهية التي كانت تسيطر على العراق، وحلت مكانها الدولة السلجوقية التي سرعان ما أصبحت دولة مترامية الأطراف تمتد من وسط آسيا وحتى شواطئ البحر المتوسط.

أما مصر فكانت حينها تخضع لحكم الخلفاء الفاطميين الذين كانت مصائرهم تتجه ليكونوا -مثل نظرائهم العباسيين- ألعوبة في أيدي من عُرفوا لاحقا بـ”الوزراء العظام”، وهو ما أطمع السلاجقة في انتزاع الشام منهم قبل أن يتمكن الوزير الفاطمي القوي الأفضل الجَمَالي الأرمني (ت 515هـ/1121م) من استعادة السيطرة على فلسطين والقدس الشريف سنة 491هـ/1098م؛ أي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى بعام واحد.

لقد أدى نجاح السلاجقة في إحياء قوة المسلمين وتوسعهم على حساب البيزنطيين -بعد إبادتهم جيشهم في معـ.ـركة ملاذكرد سنة 463هـ/1071م- إلى هزة عنيفة في العالم الأوروبي؛ فاستوجب ذلك -ضمن أسباب أخرى- إعلانه حـ.ـربا صليبية على المشرق الإسلامي، تستفيد من حالة التمزق والوهن التي تضرب بلاد الإسلام في أضلاع مثلثه الحيوي: العراق والشام ومصر.

وكان من اللافت تزامن هذه الهجمة الصليبية على المشرق مع “حـ.ـروب الاسترداد” الإسبانية في الأندلس التي كانت أولى نتائجها سقوط مدينة طُليطلة سنة 478هـ/1085م، واستكمال النورمانديين المسيحيين سيطرتهم على جزيرة صقلية سنة 484هـ/1091م بعد تدشينهم احـ.ـتلالها سنة 444هـ/1053م.

وقد لاحظ الإمامُ أبو الحسن السلمي الدمشقي (ت 500هـ/1106م) -في كتابه ‘الجـ.ـهاد‘ الذي ألفه بُعيد سيطرة الصليبيين على القدس لاستنهاض الأمة للدفاع عن أوطانها ومقدساتها- هذا التزامنَ الغريب؛ فقال: “فوثبت طائفة (= من الصليبيين) على جزيرة صقلية على حينِ تباينٍ من أهلها وتنافسٍ، وتملكوا بمثل ذلك بلدا بعد بلد من الأندلس، ولما تناصرت (= تواترت) الأخبار عندهم بما عليه هذه البلاد [الشامية] من اختلاف أربابها.. أمضوا عزائمهم على الخروج إليها، وكانت القدس نهاية أمانيهم منها”!!

في سياق هذه الأجواء للمشهد المحلي والإقليمي، وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1095م (= ذو القعدة 488هـ)؛ ألقى بابا الكنيسة الكاثوليكية أوربان الثاني (ت 492هـ/1099م) خطبة دينية باللاتينية في دَيْر كليرمونت بجنوبي فرنسا تردد صداها على مر العصور، حتى إن المؤرخ وِيلْ ديورانت يصفها -في ’قصة الحضارة’- بأنها “أقوى الخُطَب وأعظمها أثرا في تاريخ العصور الوسطى”!!

 

أطماع متعددة
وفي خطبته تلك؛ دعا البابا أهلَ أوروبا إلى القيام بحملة مسـ.ـلحة تحت شعار “الصليب” لنجدة إخوانهم في بيزنطة من “الأتراك”، ولـ”تحرير” البلاد المقدسة من براثن “الكفّار” المسلمين. وينقل لنا المؤرخ والقسيس المشارك في الحملة الصليبية الأولى فوشيه الشارتري (ت 521هـ/1127م) في تاريخه خطبة أوربان؛ فكان مما جاء فيها:

“عليكم أن تسارعوا لمد يد العون لإخوانكم القاطنين في المشرق..، إن الأتراك قد هاجموهم كما يعلم الكثيرون منكم، وتقدموا داخل الأراضي الرومانية (= البيزنطية بالأناضول) إلى أن وصلوا إلى ذلك الجزء من البحر المتوسط..، لقد انتزعوا شيئًا فشيئًا من أراضي المسيحيين، كما وهـ.ـزموهم في سبع معارك حتى الآن…؛ لذا -وبصلاة خاشعة- فإنني، لا بل إن الله -وليس أنا- يحثّكم يا جنود المسيح على أن تحضّوا الرجال مهما كانت مراتبهم -فرسانا كانوا أم مشاة أغنياء كانوا أم فقراء- أن يسارعوا لسحـ.ـق هذا الجنس الخسيس من أراضينا”!!

وعندما توقف المؤرخ ديورانت عند أهم دوافع الحـ.ـروب الصليبية؛ فإنه لخصها في ثلاثة أسباب مباشرة هي: “[الـ]ـأول..: هو زحف الأتراك السلاجقة..؛ الثاني..: ما حاق بالإمبراطورية البيزنطية من ضعف شديد الخطورة..؛ [الـ]ـثالث..: هو رغبة المدن الإيطالية -بيزا وجنوى والبندقية وأمالفي- في توسيع ميدان سلطانها التجاري الآخذ في الازدياد”. ولذا يقرر ديورانت أن “الحـ.ـروب الصليبية.. كانت -من إحدى النواحي- حـ.ـروبا استعمارية تبغي الفتح والمكاسب التجارية”!!

وفي ظل تلك الدوافع السياسية الاقتصادية وما صاحبها من شحن عاطفي وتحريض ديني هائل؛ لاقت دعوة البابا أوربان صداها في وسط وغرب أوروبا، فتدفقت جحافل الحملة الصليبية الأولى على الشرق الإسلامي، ونجحت هي وما تلاها من حملات -مع تفاوت لافت- في ترسيخ احـ.ـتلالها لبلاد الشام وسواحلها لمدة قـ.ـرنين كاملين، أسسوا فيها أربع إمارات صليبية هي:

إمارة الرها شمال بلاد الجزيرة الفراتية بين حلب والموصل (تأسست 491هـ/1098م)؛ ثم إمارة أنطاكية (491هـ/1098م)، وإمارة طرابلس (503هـ/1109م)؛ وجعلوا هذه الإمارات تابعة لكيان أعلى منها سمَّوه “مملكة بيت المقدس”، التي أعلنوا تأسيسها في 2 رمضان 492هـ/22 يوليو 1099م.

وبهذا بدأت حقبة الاحـ.ـتلال الصليبي الذي لا نعرض هنا لتفاصيل وقائعه وفظـ.ـائعه بقدر ما نتوقف عند معالم وملامح ما استوجبه من مشروع مقـ.ـاومة كبير وممتد عبر أجيال للتصدي له والتحرر منه، وكيف انتقلت قيادة هذه المقـ.ـاومة -التي تآزر فيها الأمراء والعلماء والعامة- من الموصل بالعراق، إلى حلب ودمشق بالشام، ثم أخيرا إلى القاهرة بمصر حيث توافرت إمكانيات حسـ.ـم الصـ.ـراع قدرةً عسكرية وإرادةً سياسية.

محطة مغمورة
إن أول ما يلفت النظر أن مشروع المقـ.ـاومة الإسلامية للاحـ.ـتلال الصليبي الأوروبي كان مشروعا شاملا هبّ للعمل فيه ودعْمه الجميعُ في الأناضول والعراق والشام ومصر، وهي الأقاليم التي كانت -عبر عصور مختلفة ودول متعاقبة- في مواجـ.ـهة مستمرة ومباشرة مع الصليبيين المعروفين تاريخيا بـ”الفرنج”.

صحيح أن مشروع هذه المقـ.ـاومة لم يكن متناغمًا أو وفق تنسيق محدد حتى ظهور ولاة الموصل الأقوياء مثل مودود بن ألتونتكين (ت 507هـ/1113م) منذ سنة 503هـ/1109م، ثم خليفته آقْسُنْقُر البُرْسُقي (ت 520هـ/1126م) منذ عام 507هـ/1113م، ثم عماد الدين زنكي (ت 569هـ/1173م)؛ لكن الواقع هو أن مشروع المقـ.ـاومة كان مشتعلا منذ حط الصليبيون رحالهم ببلاد الشام، وتحديدا منذ سنة 493هـ/1100م كما سنرى تاليا.

قُـ.ـتل سُليمان بن قُـ.ـتلَمِش السلجوقي -وهو السلطان المؤسس لسلاجقة الأناضول- سنة 479هـ/1087م على يد ابن عمه تُتُش ابن السلطان ألب أرسلان (ت 487هـ/1094م) في معـ.ـركة أهلية قُرب حلب؛ وقد أدى مقـ.ـتله إلى دخول بلاد الروم (= الأناضول) في نزاع داخلي استغله الصليبيون حين دخلوا الأناضول وسحـ.ـقوا السلاجقة في معـ.ـارك دوروليوم (= مدينة إسكي شهير) ونيقيّة وغيرها في سنتيْ 490-491هـ/1097-1098م، ثم تقدموا نحو الساحل الشامي فاحتلوه وصولا إلى القدس الشريف سنة 492هـ/1099م.

ورغم فداحة هذه الأحداث؛ فقد أدت نتائجها إلى ظهور إمارة لسلالة تركمانية جاءت أصلا مع الفتح السلجوقي للأناضول على يد السلطان ألب أرسلان (ت 465هـ/1073م) عقب معـ.ـركة ملاذكرد سنة 463هـ/1071م.

وكان بطل هذه السلالة الأمير التركماني كُمشتَكين بن دانشمند طايلو (ت 499هـ/1106م) المقرب من السلطان سليمان بن قـ.ـتلمش، وإنما “قيل له ابن الدانشمند لأن أباه [طايلو] كان معلما للتركمان وتقلبت به الأحوال حتى مَلَكَ” مناطق من شرقي ووسط الأناضول؛ وفقا للمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في ‘الكامل‘.

كان أخطـ.ـر معاقل الصليبيين القريبة من منطقة الدانشمنديين هو إمارة أنطاكية بقيادة بوهيمند الأول (ت 505هـ/1111م) الذي تسميه المصادر الإسلامية “بيمُند”، وكان يمنّي نفسه بتوسيع إمارته بضم شمالي بلاد الشام شاملا حلب وأعزاز، وبدأت هذه الخطة سنة 493هـ/1100م حين “خرج بيمند ملك الإفرنج صاحب أنطاكية إلى حصن أفامية ونزل عليه”؛ طبقا لابن القلانسي (ت 555هـ/1160م) في ‘تاريخ دمشق‘.

وقد أدرك كُمُشتكين بن دانمشند خطورة استيلاء الصليبيين على حلب وجوارها؛ إذ سيتبعه ضمهم مناطق المسلمين شمالي العراق والأناضول. ولهذا السبب وضع كُمُشْتَكِين خطة حـ.ـربية ذكية، وهي حـ.ـصار مدينة ملاطية جنوبي الأناضول وكان يحكمها الأرمن بقيادة جبريل الأرمني (ت بعد 493هـ/1100م) المتحالف مع بوهيمند أمير أنطاكية الصليبي؛ وكان كمشتكين يُدرك أن جبريل سيستغيث ببوهيمند، وهو ما يؤكده ابن الأثير بقوله: “وكان صاحبها (= ملاطية) قد كاتبه (= بوهمندو) واستقدمه فورد عليه في خمسة آلاف” مقـ.ـاتل.

تعويق وتطويق
استعد كمشتكين لمجيء عـ.ـدوه بوهيمند الأول أمير أنطاكية في زمرته العسكرية، ولسوء طالع الأمير بوهيمند فإنه “وقع بسبب خطاياه في يد عـ.ـدوّه فكبّله بالسلاسل فكان ذلك نصرًا لدانشمند”؛ حسب مؤرخ الصليبيين وليم الصوري (ت 582هـ/1186م) في تاريخه عن الحـ.ـروب الصليبية.

كان أسر بوهيمند الأول -وهو أحد عظماء أمراء الصليبيين وقائد حملتهم الأولى- كارثة عظمى سرعان ما بلغ صداها أوروبا؛ فنادى البابا باسكال الثاني (ت 512هـ/1118م) بضرورة التحرك لإنقاذه فتحركت الجموع في إيطاليا وفرنسا وألمانيا لتخليصه والرد على الإهانة التي وجّهها إليهم الأتراك، بعد سنة واحدة من احـ.ـتلالهم للقدس وأخم مراكز الساحل الشامي!!

وعن تحركهم هذا ومواجـ.ـهة الدانشمنديين له؛ يخبرنا ابن الأثير -في ‘الكامل‘- بقوله إنه في ذي القعدة 493هـ/1100م “وصل من البحر سبعة قمامصة (= أمراء) من الفرنج وأرادوا تخليص بيمُند، فأتوا إلى قلعة تُسمى أنكورية [أنقرة] فأخذوها وقتـ.ـلوا من بها من المسلمين..، فجمع ابن الدانشمند جمعا كثيرًا ولقي الفرنج (بمنطقة ميرسيفان MERZİFON)..، فلم يُفلت أحدٌ من الفرنج وكانوا ثلاثمئة ألف”!!

يؤكد المؤرخون اللاتينيون صحة هذه الأرقام، ويعتبر بعض المؤرخين أن هـ.ـزيمة ميرسيفان -أو ميرزفوم- تلك في شمال الأناضول بمثابة حملة صليبية “ثانية” تجاهل المؤرخون أهميتها، ولم ينتبهوا لقوة التركمان المسلمين الدانشمنديين فيها. ويضيف ابن الأثير أن كمشتكين استـ.ـغل هـ.ـزيمة أعـ.ـدائه فسارَ “إلى ملَطية فملَكها وأسرَ صاحبها (= جبريل الأرمني)، ثم خرج إليه عسكرُ الفرنج من أنطاكية فلقيهم وكسَرهم وكانت هذه الوقائع في شُهور قريبة”!!

كما أدرك كمشتكين خطورة حملات الصليبيين الذين تتابعت جموعهم بعشرات الآلاف تريد احـ.ـتلال الأناضول، وأن الصـ.ـراع بين الإخوة الأتراك -من الدانمشنديين وسلاجقة الروم- لا بد أن ينتهي ليضمنوا تجاوز الأخطار؛ فأرسل إلى السلطان قِلِج أرسلان بن سليمان بن قـ.ـتلمش السلجوقي (ت 501هـ/1107م) يمد إليه يد التعاون والاتحاد في مواجـ.ـهة هذا العـ.ـدو، فوافق قِلِج على ذلك العرض.

وهكذا حين وصل الصليبيون إلى قونية -عاصمة السلاجقة- وجدوا تحالفا إسلاميا بين الأمراء الأتراك الذين “تربصوا جميعا بالصليبيين على مقربة من هرقلة (شرق قونية)، وعندما انقض الأتراك على الصليبيين في أوائل سبتمبر/أيلول 1101م (ذو القعدة 494هـ) أبادوا الجيش الصليبي أولا عن آخر، ولم يتمكن من النجاة بصعوبة إلا قلة قليلة”؛ وفقا لما ينقله المؤرخ سعيد عاشور (ت 1430هـ/2009م) -في كتابه ‘الحركة الصليبية‘- عن المصادر اللاتينية.

وهكذا أدت انتصارات الأتراك الدانشمنديين وسلاجقة الروم الباهرة على الصليبيين إلى توقف الحملات الصليبية لنصف قـ.ـرن، وقادت انتصاراتهم تلك إلى انتعاش روح المقـ.ـاومة الإسلامية في العراق وبلاد الشام في مرحلة مبكرة من حقبة الاحتـ.ـلال الصليبي، وجعلت مناطق الشمال في الأناضول بيئة آمنة وقادرة على إعاقة تدفق العـ.ـدو الصليبي برًّا عبرها نحو الجنوب؛ فأصبحت أوروبا مضطرة إلى دعم وإمداد أبنائها في الشام من خلال البحار فقط.

أنظمة متخـ.ـاذلة
كانت بلاد الشام الداخلية -بعد استيلاء الصليبيين على معظم السواحل من أنطاكية شمالا إلى عسقلان جنوبا فضلا عن فلسطين- خاضعة لحكم سلاجقة الشام (471-511هـ/1078-1117م)؛ فكان رضوان بن تُتش بن ألب أرسلان (ت 507هـ/1113م) يحكم حلب وما يجاورها، وأخوه دُقَاق بن تتش (ت 497هـ/1104م) يحكم دمشق وما بحوزتها، وكانا في صـ.ـراع دائم على النفوذ والسيادة بين شمالي الشام وجنوبيه، مما حيّد الشام عن ساحة الفعل المقـ.ـاوم قرابة عقدين.

فقد عُرف رضوان -بشكل عام- بانتهاجه سياسة متخاذلة وانتهازية مراوغة يخبرنا ابن الأثير عن بعض جوانبها قائلا: “كانت أمور رضوان غير محمودة.. وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه”!! كما اشتهر بعلاقته الخانعة مع الصليبيين، ومن ذلك أنه كثيرا ما “كتب إلى طنكري (ت 506هـ/1112م) صاحب أنطاكية.. وطلب منه النصرة” لكسب صـ.ـراعاته مع جيرانه من الأمراء الأتراك.

أما أخوه دُقاق فكان واهن السياسة طوال حكمه، وقد أصيب بـ”مَرض تطاولَ به وتُوفي منه..، فغلبَ [ظهير الدين] طُغْتَكِين (البوري ت 522هـ/1128م) حينئذ على دمشق” بوصفه قائد جيشها فاتخذها إمارة لنفسه وورّثها لعقبه؛ وفقا لابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘.

وبذلك بدأ حُكم سلالة بوري في دمشق حتى سنة 549هـ/1154م، وقد ساهم مؤسِّس إمارتهم طغتكين في مواجـ.ـهة الصليبيين الملاصقين لهم في فلسطين وسواحل الشام، ففي عام 501هـ/1117م “سار طُغتكين في جُـ.ـند دمشق فهـ.ـزمَ الفرنج وأسر صاحب طبرية جرماس (ت بعد 501هـ/1117م)” الصليبي؛ طبقا للذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘. ويضيف أنه في السنة التالية “سار طُغتكين في ألفين فالتقى الفرنج فانهـ.ـزَمَ جمعُه وثبُت هو، ثم تراجعوا إليه ونُصروا” على المعسكر الصليبي.

إذا كان السلاجقة وأمراؤهم في الأناضول والشام قد ساهموا في مواجـ.ـهة المد الصليبي، وصدوا كثيرا من غاراتهم على القرى والمدن الإسـ.ـلامية وقوافل التجارة والحج؛ فإن سلاطين سلاجقة العراق وكبار قادتهم العسكريين كان لهم إسهامهم القوي في هذا المجال، بل إن المؤرخين يعتبرون “أتابكية الموصل” هي نقطة الانطلاق الكبرى التي عملت على تحرير الشام من براثن هذا الاحـ.ـتلال، ثم تأسس على جهدها في الشام ما تلاه من مراحل تحرير ساهمت فيها مصر وانتهت بتصفية الوجود الصليبي.

صـ.ـراع معطِّل
والحق أن السنوات التي تلت وفـ.ـاة السلطان الشهير ملكشاه بن ألب أرسلان سنة 485هـ/1092م، وحتى وفـ.ـاة ابنه السلطان بَرْكْيارُوق سنة 497هـ/1104م؛ كانت صـ.ـراعا أهليا طاحنا بين أبناء ملكشاه على عرش السلطنة، وهي ظروف مؤسفة استغلها الصليبيون لاحـ.ـتلال بلاد الشام والقدس وارتكاب الفظـ.ـائع.

وقد عبر المؤرخ ابن الأثير -في كتابه ‘الكامل‘- ببراعته المعهودة عن العلاقة بين نجاح الغزو الصليبي والصـ.ـراع بين الملوك المسلمين؛ فقال: “واختلف السلاطين.. فتمكن الفرنج من البلاد”!! وقال أيضا -راصدا نتائج ذلك على الرأي العام الإسـ.ـلامي حينها- إنه “لمّا استطال الفرنج.. بما ملكوه من بلاد الإسـ.ـلام، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسـ.ـلام وملوكه بقـ.ـتال بعضهم بعضا، تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمـ.ـزقت الأموال”!!

وبعد سنوات من الاقتتال الداخلي السلجوقي توصل طرفا الصـ.ـراع سنة 496هـ/1103م إلى اتفاق يقوم على تقاسم أقاليم سلطنتهم؛ ومن ذلك ما يحدثنا به صدر الدين الحسيني (ت 622هـ/1225م) -في ‘أخبار الدولة السلجوقية‘- من أن الطرفين “اصطلحا على أن يكون للسُّلطان محمد (بن ملكشاه ت 511هـ/1117م) ما وراء النهر الأبيض (يقع شمالي إيران) مع الموصل والشام”.

حاول السلطان غياث الدين محمـد بن ملكشاه -ومن بعده ابناه الغريميْن: محمود (ت 525هـ/1131م) ومسعود (ت 547هـ/1152م)- تعزيز قوة الإمارات التابعة لهم في تلك المناطق، وعلى رأسها “أتابكية الموصل” التي ظلت -بدءا من ولاية زعيمها قوام الدولة كَرَابُغا/كَرَبوقا (ت 495هـ/1102م)- تقود الجهود التي تصدت للصليبيين، منذ هجومهم على أنطاكية سنة 491هـ/1098م.

يقول ابن العديم (ت 660هـ/1262م) في ‘زُبدة الحلب في تاريخ حلَب‘: “لما نزل الفرنج.. بأنطاكية جعلوا بينهم وبين البلد (= المدينة) خندقاً لأجل غارات عسكر أنطاكية عليهم وكثرة الظفر بهم… وجمع كَرَبوقا صاحب الموصل عسكراً عظيماً وقطع به الفرات” لقـ.ـتال الصليبيين. وهكذا نجد أن كرابُغا -أمير الموصل من قبل السلاجقة- كان يتقدم المساهمين في الدفاع عن أنطاكية قُبيل سقوطها.

وقد خلَفَ كرابُغا الأميرُ جَكرمِش التركي (ت 500هـ/1106م) لذي لم يمنعه صـ.ـراعه الدامي مع إمارة الأراتقة التركمان -في ديار بكر وشمالي الجزيرة الفراتية- بزعامة سُقمان بن أرْتَق (ت 497هـ/1104م) من التحالف معه لمواجـ.ـهة الصليبيين في الرُّها (= أورفا التركية اليوم) وأنطاكية؛ فحين أرادوا احــ.ـتلال حرّان (جنوب تركيا اليوم) “أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع لتلافي أمر حران، ويُعْلمه أنه قد بذل نفسه للهِ تعالى وثوابِه”؛ حسب ابن الأثير.

ولما وقعت المعـ.ـركة هـ.ـزم المسلمون الصليبيين “فقـ.ـتلوهم كيف شاءوا وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم”، ووقع بلدوين الأول (ت 512هـ/1118م) -وهو أمير إمارة الرها الصليبية- في الأسر بعد أن “انهـ.ـزم في جماعة من قمامصتهم (= أمرائهم)”.

تحوُّل لافت
وهكذا نجت حرَّان من الاحـ.ـتلال الصليبي بفضل التعاون والاتحاد بين أتابكية الموصل وإمارة الأراتقة بديار بكر التابعتين سياسيا لسلطان السلاجقة، وبذلك أيضا تحول الجهد المقـ.ـاوم من الهامش في الأناضول إلى المركز بالشام والجزيرة الفراتية.

وحسب المؤرخ البريطاني ويليام بارون ستيفنسون (ت 1374هـ/1954م) -في كتابه ‘الحـ.ـروب الصليبية في الشرق‘- فإن معـ.ـركة حران -أو البَلِيخ- تمخضت “عن نتائج على مستوى كبير الأهمية، فقد أوقفت زحف الصليبيين صوب الشرق، وقضت على آمالهم في التقدُّم نحو العراق، وإتمام سيطرتهم على إقليم الجزيرة الفراتية، كما خيبت مطامح بوهيمند في السيطرة على حلب وتحويل إمارة أنطاكية إلى دولة كبيرة، كما شجّعت رضوان [بن تُتش أمير حلب] على القيام بسلسلة من الهـ.ـجمات على المواقع المحيطة بحلب، استطاع خلالها أن يجلوهم عنها بمساعدة أهاليها من المسلمين الذين انقضُّوا على حكّامهم الصليبيين” .

وقد واصل “أتابكة الموصل” (ولاتها العسكريون) -بعد جركمش- مواجـ.ـهة الصليبيين في بلاد الشام شماليها وجنوبيها، وعلى رأسهم الزعيمان جاولي سقاووا (ت 502هـ/1108م) ومودود بن ألتونتكين. وهذا الأخير يعد من كبار الأمراء الأتراك المجاهدين؛ فقد أدرك مودود خطورة إمارة الرها الصليبية في شمال الشام، وعدّها أهم عقبة أمام مشروع التحرير فحاصرها مرارًا.

وفي عام 503هـ/1109م أمر السلطان محمـد بن ملكشاه كلا من أمير الموصل مودود وأمير أرمينية سُقمان القطبي (ت 504هـ/1110م) وأمير ديار بكر إيلغازي بن أرْتَق (ت 516هـ/1122م) “بالمسير في العساكر إلى جـ.ـهاد الإفرنج وحماية بلاد الموصل..، واجتمع المسلمون في عدد لا يقوم بلقائه جميع الإفرنج. واتفقت الآراء على افتتاح الجـ.ـهاد بقصد الرُّها ومضايقتها إلى أن يسهل الله افتتاحها بحكم حصانتها ومنعتها”، على ما يذكره ابن القلانسي في ‘تاريخ دمشق‘.

ولئن استطاع اتحاد الصليبيين -في شمالي الشام وجنوبيها- فكّ هذا الحـ.ـصار عن الرها وسكانها “كان أكثرهم نصارى”، حسب الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘؛ فإن مجرد عقدِ تحالفٍ بين القوى الإسـ.ـلامية يهـ.ـدف إلى “افتتاح الجـ.ـهاد بقصد الرُّها” كان إنجازا كبيرا، وأعطى مؤشرا قويا باستعادة الطرف الإسـ.ـلامي في الصـ.ـراع لزمام المبادرة، وآذن بانتقال الجهد العسكري المقـ.ـاوم من حالة الدفاع إلى وضعية الهجوم.

نجم جديد
أسهم أتابكة الموصل -منذ كربُغا وجركمش- في تربية وتأهيل عماد الدين زنكي لأنه كان الابن الوحيد لصديقهم قسيم الدولة آقْسُنْقُر التركماني (ت 487هـ/1094م) “وكان عمره حين قُـ.ــتل والده عشر سنين”؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

وعن تلك العلاقة بين عماد الدين ورعاة تربيته من أصدقاء والده؛ يخبرنا ابن الأثير -في كتابه ‘التاريخ الباهر‘- قائلا: “لما ملك [كربُغا] البلاد (= الموصل) أحضرَ مماليك قسيم الدولة آقسُنقر وأمر بإحضار [ابنه] عماد الدين زِنكي، وقال: هو ابن أخي، وأنا أولى الناس بتربيته! فأحضروه عنده..، وملك الموصل [بعده] شمس الدولة جكرمش وأخذ الشهيد عماد الدين وقرّبه وأحبّه واتخذه ولدًا لمعرفته بمكانة والده..، ثم ملَك الموصل -بعد جكرمش- جاولي سقاووا فاتصل به عماد الدين زنكي فظهرت عليه أمارات السعادة والشهامة”!

وتلك التربية الأخلاقية والعسكرية العميقة التي نالها عماد الدين زنكي هي التي ستُحْدث انطلاقة كبرى في مشروع المقـ.ـاومة الإسلامية تجاه الصليبيين، بدءا من سنة 522هـ/1128م حين عيّنه السلطان السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه واليا على الموصل، خلفًا لهؤلاء القادة العظام الذين سبقوه في ميدان المقـ.ـاومة ومهدوا طريقها طوال عقدين.

جاء اعتلاء زنكي كرسي ولاية الموصل مدعوما بنجاحه في الاضطلاع بمهمات “ولاية بغداد وشرطتها” حين تولاها سنة 521هـ/1127م، وأيضا بتزكية نالها من كبار قضاة وعلماء الموصل، ومن الوزير السلجوقي ببغداد أنوشروان بن خالد القاشاني (ت 532هـ/1138م) “لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنج”؛ حسب الذهبي.

ويفيدنا ابن الأثير -في ‘التاريخ الباهر‘- بمدى اتساع هيمنة الصليبيين لحظة تسلم زنكي ولاية الموصل؛ فيقول إنه “كانت مملكة الفرنج حينئذ قد امتدت من ناحية ماردين وشبختان (تقعان جنوب شرقي تركيا اليوم) إلى عريش مصر، لم يتخلله من ولاية المسلمين غير حلب وحمص وحماة ودمشق، وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى آمد، ومن ديار الجزيرة إلى نَصِيبِين (جنوبي تركيا) ورأس العين (شمالي سوريا)..، وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة (= مدينة الميادين اليوم) والبر..، ثم زاد الأمر وعظم الشر حتى جعلوا على كل بلد جاورهم خراجًا وإتاوة يأخذونها منهم ليكفّوا أيديهم” عن سكانها!!

أدرك عماد الدين زنكي خطورة الصليبيين واستطالتهم على المسلمين، وأن سبب هذه الاستطالة هو تشــ.ـرذم المقـ.ـاومة الإسـ.ـلامية إلى ولايات متصارعة في أغلب الأوقات بين الأسر الحاكمة في أقاليم المنطقة: أتابكة الموصل، وأراتقة الجزيرة، وسلاجقة حلب، والبوريين في دمشق؛ ولذا عزم على توحيد هذه الجـ.ـبهات في دولة واحدة ومواجـ.ـهة الصليبيين في الوقت ذاته، وكان الاختبار عسيرًا في مهمتيْ: التوحيد والتحرير.

وفي سنوات قليلة اتسع نطاق إمارة زنكي في جميع الاتجاهات وأزاح أمراء أغلب المدن الكبيرة وضمها إلى حكمه؛ فتواترت لأول مرة أنباء الانتصارات التي كانت معها ترتفع المعنويات وتتحفز الطاقات لمزيد من التوحد والتحرير، كما سرت في أوصال المنطقة روح بعث جديد يؤسس لمشروع تحرير تعززه أجيال متعاقبة وتعتز به. وهو المشروع الذي كانت نواته توحيد زنكي للموصل مع حلب التي توجه إليها سنة 522هـ/1128م فـ”خرج أهل حلب إليه فالتقوه واستبشروا بقدومه، ودخل البلد واستولى عليه ورتب أموره”؛ حسب ابن الأثير.

ويلخص لنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- ذلك الزخم الجـ.ـهادي الذي أحدثه زنكي بقوله إنه “استولى على البلاد وقوي أمره..، وترقت به الحال إلى أن ملك الموصل وحلب وحماة وحمص وبعلبك، ومدائن كثيرة يطول تعدادها..، واسترجع عدة حصون من الفرنج مثل كفرطاب والمعرة والرها..؛ وكانت البلاد خـ.ـرابا من الظـ.ـلم ومجاورة الفرنج فعمرها..؛ حتى إنه لا ينقضي عليه عام إلا وهو يفتح من بلادهم (= الصليبيين)”!! أما ابن الأثير فيجزم بأنه “لولا أن الله تعالى منَّ على المسلمين بملك أتابك [زنكي] ببلاد الشام لملكها الفرنج..، فلطف الله بالمسلمين بولاية عماد الدين ففعل بالفرنج” الأفاعيل!!

أرضية صلبة
وبعد سيطرته على الأوضاع في شمالي العراق والجزيرة الفراتية وشمالي بلاد الشام، وتوحيد جبهاتها تحت قيادته زهاء عشرين سنة؛ تمكّن عماد الدين زنكي -بكثير من الدهاء والحزم وتحيُّن الفرص المواتية- من بناء أرضية صلبة يقف عليها لمواجـ.ـهة الإمارات الصليبية التي تليه، بعد أن أمّن خطوطه الخلفية من أعـ.ـدائه أمراء الداخل الإسلامي المتخاذلين؛ إذْ كان هؤلاء “الأعـ.ـداء محدقين ببلاده وكلهم يقصدها ويريد أخذها”!! طبقا لتعبير الذهبي.

وهكذا انطلق سنة 539هـ/1144م لإسـ.ـقاط أول إمارة صليبية تأسست في المنطقة الإسلامية شمالي الشام، حين رفع إليه جهاز استخباراته خبرا يفيد بأن أمير الرُّها الصليبي جوسلين الثاني (ت 554هـ/1159م) خرج مسافرا عنها؛ فعندها “نزل زنكي على الرُّها -وهي للفرنج- فنصب عليها المجانيق، ونقَب سورها وطرح فيه الحطب والنّار فانهـ.ـد م، ودخلها فحاربهم ونُصِر المسلمون..، وخلّص منها خمسمئة أسير” من المسلمين كانوا محتجزين فيها؛ وفقا للذهبي.

وبذلك التحرير -الذي كان درة تاج أعمال زنكي وأكبر منجز للمسلمين منذ بداية الاحـ.ـتلال الصليبي للمنطقة- صارت الرُّها أولى الإمارات الصليبية سقوطا كما كانت أُولاها تأسيسا!! ثم إن هذا التحرير أزال أيضا أحد فكيْ الكماشة الصليبية عن حلب الواقعة بين الرها وأنطاكية، والتي تعدّ أهم مدينة في سلطان زنكي بعد عاصمته الموصل، بعد أن تمنعت دمشق على السقوط في يده رغم حـ.ـصاره لها مرات عدة.

وقد أدرك المؤرخ والكاتب عماد الدين الأصفهاني (ت 597هـ/1201م) ما أحدثه تحرير الرها من تحول تاريخي في منحنى الصـ.ـراع، إذْ بدأ معه العد العكسي لتهاوي الصليبيين؛ فقال حسب ما نقله عنه المؤرخ ابن أبي شامة المقدسي (ت 665هـ/1267م) في ‘كتاب الروضتين‘: “استولى زنكي على الشام.. وهو الذي فتح الرها عنوة..، فتسنى بفتح الرها للمسلمين جوس بلاد [أميرها] جوسلين، وعاد جميعها إلى الإسلام في عهد ولد زنكي نور الدين، وصارت عقود الفرنج من ذلك الحين تُنْفسَخ وأمورها تنتسخ ومعاقلها تُفْرَع (= تفكَّك)”!!

كان فتح الرها خاتمة أمجاد عماد زنكي إذْ لم يعمّر بعده كثيرا؛ ويخبرنا ابن الأثير -في ‘الكامل‘- بأنه في ليلة 16 ربيع الآخر سنة 541هـ/1146م، وبينما كان زنكي يستعد لفتح قلعة جَعْبر على الفرات؛ تعرض لهجوم فـ”قـ.ـتله جماعة من مماليكه ليلاً غِيلةً وهربوا إلى قلعة جعبر” التي كان يحكمها غريمه الأمير علي بن مالك العقيلي (ت 546هـ/1151م).

ويورد سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) ما يشير إلى علاقة محتملة للأمير العقيلي باغتيال زنكي، استباقا منه لسيطرته المنتظرة على جعبر؛ فيقول إن قـ.ـتله تم على يد “أحد خدمه (= زنكي) ومن كان يهواه ويأنس به ويعرف بيرنقش الإفرنجي، ووافقه بعض الخدم.. فذبحوه على فراشه بعد ضربات تمكنت من مقـ.ـاتله، وهرب الخادم [الإفرنجي] إلى القلعة وصاحبها عز الدين علي بن مالك بن سالم العقيلي، فبشره بهلاكه فأكرمه وسُرَّ” بفعلته!!

خطة شاملة
انقسمت مملكة عماد زنكي -بعد اغتياله- بين ولديْه: سيف الدين غازي (ت 544هـ/1149م) الذي انفرد -حتى وفاته- بحكم الموصل وشمال العراق والجزيرة الفراتية، ونور الدين محمود (ت 569هـ/1174م) الذي جعل من حلب قاعدته لحكم مناطق شمالي الشام.

سار نور الدين محمود على طريق والده ذي المسارين المتوازييْن: مواجـ.ـهة الصليبيين طوال ثمانية وعشرين عامًا، والسعي للتوحيد المتدرج للمناطق الإسلامية التي لم تسقط في قبضتهم؛ ولذا فإنه بعد أن “استتبّ له الأمر ظهر منه بذل الاجتهاد في القيام بأمر الجـ.ـهاد، والقـ.ـمع لأهل الكفـ.ـر والعـ.ـناد، والقيام بمصالح العباد”؛ وفقا لابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘.

لم يرتح نور الدين محمود يوما من مقارعة الصليبيين وتوحيد الشام شماليه وجنوبيه؛ ففور تسلمه السلطة “خرج غازيا.. فافتتح حصونا كثيرة” وقلاعا للإفرنج؛ كما يروي معاصره المقرب منه الإمام المحدّث ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘.

وقد بلغ من نكايته في الصليبيين أنه تكرر وقوع عدد من ملوكهم في أسره لأول مرة منذ بدأ الصـ.ـراع؛ فقد حدث مرة أنه “غزا حصن إنِّب (قرب أعزاز السورية) فقصده الإبرنس (= الأمير ريموند) متملك أنطاكية وكان من أبطال العـ.ـدو وشـ.ـياطينهم، فرحل عنها [نور الدين] ولقيهم دونها، فكسرهم وقـ.ـتله وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه، وبقي ابنه صغيرا مع أمه بأنطاكية وتزوجت بإبرنس آخر، فخرج نور الدين في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني، وتملك أنطاكية ابن الإبرنس الأول وهو بيمنت (= بوهيمند الثاني ت 524هـ/1130م)، ووقع في أسره في نوبة (= معـ.ـركة) حارم (تقع اليوم بإدلب السورية) وباعه نفسَه (= افتداها) بمال عظيم أنفقه [نور الدين] في الجـ.ـهاد”؛ طبقا لابن عساكر.

وبحلول عام 549هـ/1155م تمكن نور الدين محمود من توحيد جناحيْ الشام حلب ودمشق وما بينهما؛ فقد استطاع محاصرة دمشق مرتين وفتحها في الثالثة بعد أن “امتنع الأجنادُ والرعية [فيها] من الممانعة لما هم عليه من المحبة لنور الدين وعدله وحُسن ذكره، وبادر بعضُ قطّاعي الخشب بفأسه إلى الباب الشرقي [لدمشق] فكسر إغلاقه وفتحـ[ـه] فدخل منه العسكر على رَغَب [من أهلها]..؛ ثم دخل الملك نور الدين وخواصُّه، وسُرّ كافة الناس من الأجناد والعسكرية لما هم عليه من الجوع وغلاء الأسعار والخوف من منازلة الإفرنج الكفار”؛ حسب ابن القلانسي.

على أن نور الدين أضاف بُعدا جديدا حيويا إلى خطته الإستراتيجية التحريرية، وهو البعد الإصلاحي الشامل للنواحي الخدمية والعمرانية والمجتمعية والتربوية، وكذلك الإحياء الديني للمجتمع بعد قـ.ـرنين من الفوضى الفكرية التي ضربت بأطنابها في بلاد الشام، وخاصة منذ سيطرة الفاطميين عليها في ستينيات القـ.ـرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي.

فقد كان نور الدين مدركا لحقيقة أن الصـ.ـراع -في جوهره- صـ.ـراع أفكار ومشاريع حضارية؛ ولكي ينتصر فيه المسلمون فإنهم يحتاجون إلى مشروع إصلاحي كبير وشامل وراسخ الإمداد والامتداد، مشروع يركز على الملامح الإصلاحية الكبرى للمجتمعات وليس على معارك الحـ.ـرب بين المعسكرات، ويدار بدولة مركزية تنطلق قيادتها من الأرضية الصلبة لهذا المشروع إلى معارك التحرير للأوطان.

ويُجْمل لنا ابن عساكر جهود نور الدين في هذا الميدان بقوله إنه لما تولى السلطة “أظهر بحلب السُّنّة.. حتى أقام شعار الدين..، ونشر فيها مذاهب أهل السنة الأربعة.. وبنى بها المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر فيها العدل والإنصاف”. وكذا فعل في دمشق حين ضمها “فضبط أمورها وحصّن سورها، وبنى بها المدارس والمساجد وأفاض على أهلها الفوائد، وأصلح طرقها ووسّع أسواقها..، ومنع ما كان يؤخذ منهم من المغارم.. وغير ذلك من المظالم” التي أحدثها نظام البوريين.

ويؤيد ذلك ابن الأثير -في ‘الكامل‘- بقوله: “وأما ما فعله من المصالح؛ فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها..، وبنى المدارس الكثيرة..، وبنى البيمارستانات (= المستشفيات) والخانات (= محطات الراحة) في الطرق، وبنى الخانكاهات للصوفية في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوقوف الكثيرة، وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم”.

مرحلة حـ.ـاسمة
كانت الأسرة الأيوبية قد انخرطت في خدمة عماد الدين زنكي منذ عام 532هـ/1138م، بعد أن نشأت علاقة قوية بينه وبين حاكم قلعة تكريت نجم الدين أيوب (والد صلاح الدين ت 568هـ/1173م) لدور الأخير في إنقاذ عماد زنكي، وفتحه معابر دجلة أمامه ليصل إلى مقر حكمه بالموصل إثر هزيمته -مع السلطان السلجوقي محمود- ببغداد في إحدى جولات صـ.ـراع السلاجقة الداخلي على السلطنة سنة 526هـ/1132م. فهذا الصنيع من نجم الدين أيوب “كان سببًا لاتصاله به (= عماد زنكي) والمصير في جُملته حتى آل بهم (= الأيوبيين) الأمرُ إلى مُلك مصر والشام وغيرهما”؛ حسب ابن الأثير في ‘الكامل‘.

وبمرور الزمن أصبح نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين شِيْركُوه (ت 564هـ/1169م) وابنه صلاح الدين (ت 589هـ/1193م) من المقربين إلى نور الدين محمود، حتى لاحت الفرصة لضم مصر نهائيا إلى المملكة الزنكية بالشام بالقضاء على حكم الفاطميين ووزيرهم شاور السعدي (ت 564هـ/1169م) المتحالف مع الصليبيين، والذي ينسق معهم لتسليمها إليهم.

لقد أدرك نور الدين أنه لا مفرّ من “دفع الفرنج عن الديار المصرية [لأن] في ملكهم لها بوار الإسلام بالكلية”؛ حسب ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1201م) في ‘مفرج الكروب في أخبار بني أيوب‘. ولذلك أرسل صلاحَ الدين مع عمه قائد الجيوش أسد الدين في حملة ثالثة إلى مصر سنة 564هـ/1169م، وكان هـ.ـدفها هذه المرة إخضاع البلاد لحكم الزنكيين المباشر وقطع الطريق نهائيا على الأطماع الصليبية.

ويبدو أن صلاح الدين كان مترددا بشأن الانخراط في تطبيق الخطة التي رسمها نور الدين لإنقاذ مصر، خاصة أنه جرّب هذا المسعى مرتين من قبلُ؛ ولذلك يروي لنا كاتبه ومؤلف سيرته القاضي ابن شداد الموصلي (ت 632هـ/1235م) -في ‘النوادر السلطانية‘- نقلا عن صلاح الدين شفاهةً: “قال [لي] نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك [أسد الدين]، فشـ.ـكوتُ الضائقة (= نقص المال)، فأعطاني ما تجهزتُ به، فكأنما أساق إلى المـ.ـوت”!!

استطاع صلاح الدين السيطرة على مصر التي سرعان ما أصبح وزيرها المطلق التصرف خلفا لعمه شيركوه، فحقق لسيده نور الدين حلمه بتوحيدها مع الشام بإنهائه حكم الفاطميين الذي تواصل 210 سنوات! وهو ما يشرح لنا المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في كتابه ‘السلوك‘- كيفية تحقُّقه؛ فيقول: “فوّض العاضد (آخر خليفة فاطمي ت 567هـ/1171م) وزارته إلى صلاح الدين ونعته بالملك الناصر، فمشّى الأحوال وبذل الأموال..، ثم إنه دأب في إزالة الدولة الفاطمية..، ومـ.ـات العاضد وقد قطع صلاح الدين خطبته [على المنابر]، وأمر الخطباء بالدعاء للمستضيء بنور الله (الخليفة العباسي ببغداد ت 577هـ/1181م)”!!

توفي السلطان نور الدين محمود في عام 569هـ/1174م بعد أن “سهَّلَ [الله] على يديه في فتح الحصون والقِلاع، ومكَّنَ له في البلدان والبقاع”؛ وفقا لتعبير لابن عساكر. وهنا تبرز أمامنا مجددا مشـ.ـكلة وراثة العرش التي نواجهها إثر غياب كل قائد من قادة مشروع التحرير للأقطار الإسلامية من الاحـ.ـتلال الصليبي، منذ عهد ولاة الموصل حين اغتيل أميرها آقْسُنْقُر البُرْسُقي (ت 520هـ/1126م) -على أيدي الحشاشين الذين قـ.ـتلوا عددا وافرا من خيرة أمراء وعلماء المقـ.ـاومة- وحتى نهاية الدولة الأيوبية.

توطيد للتوحيد
ترك السلطان محمود زنكي ابنا صغيرًا في حلب هو الصالح إسماعيل (ت 577هـ/1181م) الذي كان يتحكم فيه الأمراء والوزراء ويستغلون وجوده في تحقيق مصالحهم الشخصية. وقد أدرك صلاح الدين خطورة هذا الأمر في ظل اشتـ.ـعال الصـ.ـراع مع الصليبيين، وجسامة التفريط في المنجزات الضخمة التي تحققت -حتى تلك اللحظة- على صعيد توحيد الجـ.ـبهة الإسلامية.

وهكذا سعى صلاح الدين لإزاحة سيطرة الصبي الألعوبة عن أكبر قدر ممكن من البلاد التي كانت تحت حكم أبيه نور الدين، وأراد أن يتسلم مباشرة راية مشروع التحرير مرسّخا وجوده باعتباره الوريث الحقيقي لجهود نور الدين الذي كان قدوته في كل شيء؛ فقد “كان صلاح الدين لا يخرج عن أمر نور الدين، ويعمل له عمل القوي الأمين، ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين”؛ وفقا لابن أبي شامة في ‘كتاب الروضتين‘- نقلا عن عماد الدين الأصفهاني الذي كان كاتبا خاصا لصلاح الدين.

باشر صلاح الدين مواصلة إستراتيجية سلفيْه عماد الدين زنكي ونور الدين محمود في ضرورة ترسيخ وتوسيع جبـ.ـهة التحرير؛ لكنها هذه المرة أصبحت جـ.ـبهة مصرية شامية يجب توحيدها -في نطاق التماس مع الصليبيين- من الرُّها وحرّان إلى جنوب أسوان. وكان كبار أمراء دمشق مدركين لهذه الحقيقة؛ فأرسلوا -قبل وفـ.ـاة الصالح إسماعيل بسبع سنوات- سنة 570هـ/1174م إلى “صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر واستدعوه ليُملكّوه عليهم”؛ طبقا لابن الأثير.

تمكَّن صلاح الدين من توحيد مصر والشام والجزيرة الفراتية والحجاز وحتى اليمن جنوبا وإقليم برقة كاملا بليبيا غربا، وأعانه على ذلك ما كان يتحلى به من سمات القيادة العبقرية والحازمة؛ فقد وصفه الذهبي -في ‘السِّيَر‘- فقال: “كانت له همة في إقامة الجـ.ـهاد وإبـ.ـادة الأضـ.ـداد ما سمع بمثلها لأحد في دهر”!! كما “كان الناصر [صلاح الدين] عظيم الهيبة، عالي الهمة، وافر العقل، حسن السياسة، متيقظا لا يفوته أمر مما يجري في بلاده وغيرها من بلاد الإسلام”؛ طبقا لابن واصل الحموي.

وانطلاقا من موقعه الوحدوي القوي ذاك؛ شرع الناصر منذ عام 575هـ/1179م في مواجـ.ـهة الصليبيين -محـ.ـاربةً أو محـ.ـاصرةً- من حصن حارم في أقصى الشمال السوري إلى الكرك والرملة وعسقلان في أقصى الجنوب، وفي البحرين الأحمر والمتوسط. ولذا وصفه ابن الأثير -في ‘الكامل‘- بأنه “ما برحت سراياه تقصد الفرنج: فتارة تواقع طائفة منهم، وتارة تقطع الميرة عنهم”!!

استغرقت جهود التوحيد تلك من الناصر صلاح الدين زهاء عشر سنين، مدّ فيها جهود برنامج نور الدين سلفه للإصلاح المجتمعي الشامل إلى مصر، وحرّر فيها أيضا كثيرا من معاقل الصليبيين؛ ثم توّج ذلك كله بانتصار حطّين العظيم على الصليبيين في رجب سنة 583هـ/1187م، وأتبعه بفتح الفتوح -الذي عمت به الاحتفالات بلاد الإسلام– حين استعاد القدس والمسجد الأقصى في هذه “السنة الغراء التي طهَّر الله فيها الأرض المقدسة من نجاسة الشِّرْك [الصليبي]، بعد أن مكثت مُرتهنة في أيدي الكفّار نيفًا وتسعين سنة”؛ وفقا لابن واصل.

فتح مبين
وإذا كان ابن واصل يجزم بأنه “مُذْ ملَك الفرنجُ البلادَ الساحلية واستولوا عليها لم يقع للمسلمين معهم يومٌ كيومِ حطين”؛ فإن موِّثق نصوص تاريخ الحـ.ـروب الصليبية سهيل زكّار (ت 1441هـ/2020م) ينقل لنا -في الجزء الـ38 من ‘الموسوعة الشاملة في تاريخ الحـ.ـروب الصليبية‘- كتاب رحلة الراهب الدمينيكاني فيلكس فابري (ت بعد 888هـ/1483م) الذي يقول فيه:

“لم تكن هناك معـ.ـركة في جميع زمان وجود المملكة اللاتينية في الشرق قد سُفكت فيها د ماء صليبية مثلما سُفك في ذلك اليوم؛ فقد تهاوت في ذلك اليوم قوى الصليبيين كلها في الشرق وانهارت..؛ وهلك في هذه المعـ.ـركة المحزنة جدا جميعُ النبلاء ورجال الحـ.ـرب، باستثناء قلة أُخِذوا أسرى كان من بينهم الملك” الصليبي غي دي لوزنيان (ت 590هـ/1194م)”!!

وقد أدرك صلاح الدين أن عصب القوة الصليبية يكمن في فرسان تنظيميْن دينيين عسكرييْن هما: “الداوية” (فرسان المعبد) و”الإسبتارية” (فرسان القديس يوحنا)؛ فهما أشبه بـ”قوات خاصة” أو “قوات نخبة” صليبية طالما أرهقت المسلمين وقـ.ـتلت وأسرَت منهم على مدار عشرات السنين.

ولعل مردّ حزم صلاح الدين مع هذين التنظيمين هو ما سجله الرحالة الأوروبي فيلكس فابري -السابق ذكره- من أنه في حطين “كان أكثر الذين تميزوا بالشجاعة [من الفرنج] هم الاسبتارية والداوية”!! وبينما قُـ.ـتل قائد الإسبتارية فإن “مقدم الداوية” كان ضمن الأسرى مع الملك. وهو المعنى نفسه الذي ذكره ابن الأثير حين قال إن صلاح الدين -رغم ما اشتهر به حتى بين الصليبيين أنفسهم من حلم وعفو- “كانت عادته قـ.ـتل الداوية والإسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم”!!

ولذا نجد أنه بعد انتصار حطين “رأى السلطان [صلاح الدين] أن عيْن المصلحة تطهيرُ الأرض من هذين الجنسيْن النجسيْنِ؛ فأمر بإحضار كل داويّ وإسبتاريّ ليمْضي فيهم حكم السيف، وجعل لكل من يأتيه بأسير منهما خمسين دينارا (= اليوم 8000 دولار أميركي تقريبا)، فأُتِي في الحال بمئتين منهم”؛ حسب المؤرخ ابن واصل.

عزّز صلاح الدين نصر حطين والقدس بفتح الكثير من البلدات والحصون التابعة للصليبيين على الساحل الشامي، أوصلها الذهبي -في السِّيَر‘- إلى أكثر من ثلاثين موضعا؛ وكان حلمه الذي طالما راوده هو تطهير البلاد أجمعها منهم، ثم نقل المعـ.ـركة مجددا إلى أوروبا التي جاؤوا منها!!

فقد أورد كاتبه ابن شداد الموصلي -في ‘النوادر السلطانية‘- حوارا دار بينهما على شاطئ المتوسط؛ فكان مما جاء فيه: “قال [لي صلاح الدين]: أما أحكي لك شيئا في نفسي! إنه متى يسّر الله تعالى فتح بقية الساحل.. ركبتُ هذا البحر إلى جزائره، وأتبعتهم (= الصليبيين) فيها.. أو أمـ.ـوت”!! لكنه أدركته الوفـ.ـاة قبل أن يحقق حلمه هذا فـ”تأسـ.ـف الناس عليه حتى الفرنج لما كان من صدق وفائه”؛ وفقا للذهبي.

انتكـ.ـاسة مؤقتة
دخلت الدولة الأيوبية بمصر والشام -بعد وفـ.ـاة صلاح الدين سنة 589هـ/1193م- في صـ.ـراعات اشترك فيها أبناؤه الثلاثة فيما بينهم، ثم فيما بينهم وبين عمهم أبي بكر بن أيوب (ت 615هـ/1218م) الذي تلقب بـ”العادل” بعد أن آل إليه الحكم في مصر، لكننا -كما يقول الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘- نجد أحيانا أنه كان “من سيئات العادل [هذا أنه] يدع جـ.ـهاد الفرنج ويقـ.ـاتل المسلمين”!!

وإثر وفـ.ـاة العادل؛ سرعان ما تجدد الصـ.ـراع على العرش ولكن هذه المرة بين أبنائه الثلاثة: المعظّم عيسى (ت 624هـ/1227م) والأشرف موسى (ت 635هـ/1238م) في الشام، والكامل محمـد (ت 635هـ/1238م) في مصر؛ وهو صـ.ـراع مرير لم يتورع بعض أطرافه عن خيـ.ـانة الأمانة والاستعانة بالصليبيين ضد الطرف الآخر!!

وقد استنزفت هذه الصـ.ـراعات الداخلية طاقات الملوك الأيوبيين، فحرفتها بعيدا عن النهج الذي سارت وفقه الأحداث منذ عهد عماد زنكي وحتى وفاة صلاح الدين، ولذا افتقدت أنشطتهم الجـ.ـهادية -في الغالب- روح المبادرة وصارت مجرد ردّات فعل لهـ.ـجمات الصليبيين على الأراضي الإسلامية في دولتهم المترامية الأطراف، حيث استغل الصليبيون هذه الصـ.ـراعات فأعادوا نشاطهم على طول الساحل الشامي.

بل إن الصليبيين شرعوا يتحينون الفرصة للهجوم على ثغر دمياط شمالي مصر فيما عُرف بالحملة الصليبية الخامسة (615-618هـ/1218-1221م)؛ فحسبما يرويه جرجس ابن العميد (ت 671هـ/1272م) -في كتابه ‘أخبار الأيوبيين‘- فإنه في سنة 615هـ/1218م “زحفت الفرنج على دمياط وحاصروها أشد حـ.ـصار وملكوا بَرّ دمياط، فرحل السلطان الملك الكامل عن دمياط ونزل قريبًا منهم، وجرت بينهم وقائع كثيرة وحـ.ـروب عظيمة..، فالتقاهم الملك الكامل بعساكره.. فكسرهم وأسَرَ جماعة كثيرة”.

بيد أن الكامل هذا سرعان ما أضاع حسن بلائه في دمياط بارتكابه خطيئة سياسية كبرى بتحالفه مع الصليبيين، سعيا منه لدعم موقفه السياسي أمام أخويْه في الشام؛ إذ قام سنة 626هـ/1229م بتسليم بيت المقدس إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني (ت 648هـ/1250م) فيما عُرف بالحملة الصليبية السادسة.

وقد تحدث المؤرخ ابن الأثير عن أثر تلك الخطيئة في نفوس المسلمين حينها؛ فقال: “وتسلّم الفرنجُ البيتَ المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه؛ يسّر الله فتحه وعوده إلى المسلمين”!! ثم تبعه في تصوير هذا الأثر المؤرخ الواعظ سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘؛ فقال: “ووصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج، فقامت القيامة في بلاد الإسلام، واشتدت العظائم بحيث إنه أقيمت المـ.ـآتم…؛ [فـ]ـيا خجْلة ملوك المسلمين”!!

والغريب أن السلطان الكامل كان واعيا بالعواقب الفظـ.ـيعة لسلوكه هذا؛ فقد راسل -قبل فترة قليلة من عقد اتفاقه مع فريدريك- أخاه الملك الأشرف موسى، مبررا له سعيه لضم الشام إلى مملكته بمصر؛ فقال فيما نقله عنه ابن الأثير: “إنني ما جئتُ إلى هذه البلاد (= الشام) إلا بسبب الفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه…، وأنت تعلم أن عمّنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس، فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضِّي الأعصار وممرّ الأيام، فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي ادّخره عمُّنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى”؟!!

وبعد وفـ.ـاة هذا الثلاثي المتخاذل والمتقـ.ـاتل؛ ورث بعض إخوتهم وأبنائهم ما كانوا عليه من تنازع سلطوي وصـ.ـراع مقيت، فوقع كثير منهم في خطـ.ـيئة خـ.ـيانة الأمانة بالتحالف والتعاون مع الصليبيين، وهي ظاهرة تأ ذى منها كثيرا مشروع المقـ.ـاومة طوال مراحله المختلفة حتى قيام دولة المماليك.

لقد كان أحد هؤلاء الأمراء الواقعين في خـ.ـيانة المقـ.ـاومة: الصالحُ إسماعيل بن العادل (ت 648هـ/1250م) الذي تولى دمشق وجنوب الشام بعد وفـ.ـاة أخيه الأشرف موسى سنة 635هـ/1237م. وقد لخص لنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- ما كان عليه هذا الملك من خيـ.ـانة وبؤس سياسة؛ فقال: “إسماعيلُ نصَرَ الكافرين، وسلّم إليهم القلاع، واستولى على دمشق سـ.ـرقة، وحنث في يمينه، وقـ.ـتلَ من الملوك والأمراء من كان ينفع في الجـ.ـهاد”!!

جيل متألق
بارتقاء الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل الأيوبي (ت 647هـ/1249م) سدة الحكم بمصر؛ يبدأ عصر جديد بالاعتماد على العنصر التركي في بنية الجيش الأيوبي، وتعود مصر مجددا إلى سابق قوتها أيام جدّه صلاح الدين. فقد جمعَ الصالح “من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه”؛ طبقا لقريبه المؤرخ الملك المؤيّد الأيوبي (ت 732هـ/1332م) في ‘المختصر في أخبار البشر‘.

وقد استطاع المماليكُ -بما تميزوا به من تربية عسكرية ودينية متينة– الثباتَ بقوة في معـ.ـركة المنصورة بمصر سنة 647هـ/1249م أمام الصليبيين بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع (ت 669هـ/1270م)، مما أدى إلى هزيمته وأسره ومقـ.ـتل نصف جيشه الذي جاء ضمن الحملة الصليبية السابعة (647-648هـ/1249-1250م).

وينقل الأمير المملوكي المؤرخ ابن أيبك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م) -في ‘كنز الدرر‘- عن شاهد عيان في معـ.ـركة المنصورة الفاصلة؛ قوله إن المماليك “أحيوا في ذلك اليوم الإسلام من جديد، بكل أسد من الترك قلبه أقوى من الحديد؛ فلم تكن إلا ساعة وإذا بالإفرنج قد ولَّوا على أعقابهم منهـ.ـزمين، وأسُود الترك لأكتاف خـ.ـنازير الإفرنج ملتزمين”!!

وقد حمل سلاطين المماليك -منذ مؤسس دولتهم الفعلي الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م)- مشـ.ـعلَ الجـ.ـهاد المتواصل ضد الصليبيين لاقـ.ـتلاعهم من الساحل الشامي برمته؛ منطلقين في ذلك من واقع سيطرتهم القوية والمركزية على وحدة مصر والشام.

فخلال الفترة 659-690هـ/1261-1291م تمكّن المماليك من تحرير جميع المدن والقلاع والموانئ الإسلامية من احـ.ـتلال الصليبيين، التي عجزت أجيال مشروع التحرير السابقة عن انتزاعها من براثنهم، وبذلك أعادوا إلى هذا المشروع وهَجَه الذي خبا خلال النصف الأول من القـ.ـرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي.

يقول المؤرخ المملوكي ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) في ‘المنهل الصافي‘: “كان الملك الظاهر [بيبرس].. ملكاً شجاعاً مقداماً، خبيراً بالحـ.ـروب ذا رأي وتدبير وسياسة ومعرفة تامة. وكان سريع الحركات.. نالته السعادة والظَّفَر في غالب حـ.ـروبه، وفتح عدة فـ.ـتوحات من أيدي الفرنج”؛ ثم ذكر المؤرخ من هذه الفتوح أكثر من 14 موضعا شاميا كان معـ.ـقلا للصليبيين.

على أن قمة إنجازات الظاهر بيبرس -الذي أطلق شرارة مطاردة الصليبيين سنة 663هـ/1265م- كانت إسقـ.ـاطه إمارة أنطاكية الصليبية سنة 666هـ/1268م، وهي ثانية إمارات الصليبيين تأسيسا؛ وكان تحريرها أعظم إنجاز للمسلمين بعد استعادة صلاح الدين القدس قبل نحو قـ.ـرن.

وقد لاحظ المؤرخ ابن واصل حجم الإنجاز الهائل المتحقق في أيام بيبرس حين قارنه بأعمال نور الدين وصلاح الدين، بل وفضله عليهما لتضاعف أعباء الاحـ.ـتلال في عصره بالعـ.ـدوان المغولي؛ فقال: “رحم الله الملك الناصر صلاح الدين.. فلم يؤيد الإسلام بعد الصحابة.. برجل مثله ومثل نور الدين محمود بن زنكى..؛ فهما جددا الإسلام بعد دروسه..، ثم أيد الله الإسلام بعدهما بالملك الظاهر ركن الدين (= بيبرس)، وكان أمره أعجب! إذ جاء بعد أن استولى التتر (= التتار) على معظم البلاد الإسلامية، وأيس الناس أن لا انتعاش للملة؛ فبدد شمل التتار، وحفظ البلاد الإسلامية، وملك من الفرنج أكثر الحصون الساحلية”!!

تقويض كامل
ولما توفي بيبرس؛ حمل خليفتُه السلطانُ المنصور قلاوون الألفي (ت 689هـ/1290م) رايةَ المواجـ.ـهة لتصـ.ـفية بقايا الوجود الصليبي بالشام فاستولى على عدة حصون صليبية، ثم ختم حياته بإنجازه الأعظم عندما أسقط رابعة الإمارات الصليبية تأسيسا وهي طرابلس الشام التي حررها سنة 688هـ/1289م. وبصنيعه هذا أكمل المنصور قلاوون تفكيك إمارات الصليبيين الأربع التي تشكلت منها “المملكة اللاتينية في الشرق” أو “المملكة المقدسة” في بلاد الشام زهاءَ قـ.ـرنين!!

يقول الملك أبو الفداء الأيوبي مؤكدا -في تاريخه- أنه حضر تحرير طرابلس: “لما نازلها السلطان نصبَ عليها عدّة كثيرة من المجانيق الكبار والصغار ولازمها بالحـ.ـصار، واشتد عليها القـ.ـتال حتى فتحها.. بالسيف ودخلها العسكر عنوة، فهرب أهلها إلى الميناء فنجَى أقلهم في المراكب، وقُـ.ـتل غالب رجالها.. وغنِم منهم المسلمون غنيمة عظيمة”.

ثم استعد السلطان قلاوون لاستعادة آخر وأكبر معاقل الصليبيين بالشام في عصره، وهي إمارة عكّا التي لم تكن أصلا ضمن إماراتهم الأربع الأولى، وإنما تشكلت من فلولهم التي سمح صلاح الدين بخروجها من القدس وغيرها من المعاقل التي فتحها على الساحل.

وقد التقت هذه الفلول لاحقا في صور كما يقول ابن الأثير فـ”اجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد فاشتدت شوكتهم”؛ ثم هاجموا منها عكا بدعم من قادة الحملة الصليبية الثالثة التي وصلت عكا سنة 587هـ/1191م يتزعمها الملك الإنكليزي ريتشارد قلب الأسد (ت 596هـ/1199م)، فاحتلوها بعد حـ.ـصار مرير وأمعنوا في أهلها قـ.ـتلا وتنـ.ـكيلا، وأسسوا فيها إمارة صليبية خامسة عاشت قـ.ـرنا كاملا.

لكن قلاوون مـ.ـات سنة 689هـ/1290م وهو على رأس جيشه متجها من القاهرة إلى عكا لفتحها، فاضطلع بمهمة تحريرها بعده ابنه السلطان الأشرف خليل. وفي فجر 17 جمادى الأولى 690هـ/17 مايو 1291م، وبعد حـ.ـصار دام أسبوعين؛ وقع الهجوم الهائل على أسوار المدينة فكان التحرير والانتصار الباهر.

ويصف لنا الدواداري -في ‘كنز الدرر‘- أجواء هذا الحدث التاريخي الحاسم؛ فيقول إن الأشرف “زحف عليها (= عكا) بالجيوش بكرةَ النهار قبل طُلوع الشمس، وضُربت الكُوسات (= آلات نحاس تقرع بقوة لإخـ؟ـافة الأعـ.ـداء) مع طبلخانات (= طبول) الأُمراء، مع صـ.ـراخ الأبطال وصهيل الخيل وقعـ.ـقعه السـ.ـلاح؛ فخُيّل لأهل عكا [من الفرنج] أن القيامة قد قامت في تلك الساعة!! فلم تطلُع الشمس من الأبراج إلا والسناجق (= الأعلام) السلطانية الإسلامية على.. الأبراج، والفرنج.. قد ولَّوْا الأدبار وركنوا إلى الفرار”!!

وبسحـ.ـق الصليبيين في عكا في جمادى الأولى سنة 690هـ/1291م؛ تُطوى صفحة د موية استمرت قـ.ـرنين كاملين من الحـ.ـروب الصليبية فـ”تكاملت بذلك جميع البلاد الساحلية للإسلام، وطُهِّر الشام من الفرنج بعد أن كانوا قد أشرفوا على مُلك دمشق وملك مصر”؛ وفقا للمؤرخ ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) في تاريخه.

المصدر: الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى