وزعوا “العيديات” ذهباً.. واحتفلوا باستعراضات الجيـ.ـوش والأسود والفيلة.. وأطـ.ـلقوا المسـ.ـاجين.. بهجة الأعياد عند المسلمين

وزعوا “العيديات” ذهباً.. واحتفلوا باستعراضات الجيـ.ـوش والأسود والفيلة.. وأطـ.ـلقوا المسـ.ـاجين.. بهجة الأعياد عند المسلمين
أخبار اليوم
فريق المتابعة والتحرير
تدلّ المروياتُ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له يوم العيد ما يشبه الموكب، وكان يُمسك بحـ.ـربة وهو يقود هذا الموكب المبارك، وفق الجزيرة نت؛
وروى القـ.ـاضي التنوخي (ت 384هـ/995م) -في ‘نشوار المحاضرة‘- أن من “محاسن الإسـ.ـلام يوم العيد بطَرَسوس” التي تقع جنوبي تركيا اليوم، وكانت ثغـ.ـرا عظيما لمواجـ.ـهة الروم البيزنطيين حتى استولوا عليها سنة 354هـ/966م، فكان العيد -رغم أنه مناسبة فرح وسرور- فرصة لاستعراض القـ.ـوة العسكـ.ـرية للمجـ.ـاهدين المـ.ـرابطين فيها!!
وقارئ هذا المقال لن يغيب عنه هذا الملمح اللافت الذي يربط العيد بمواكب الاستعـ.ـراض العسكري وجموع الفَرِحين المُكبِّرين التي لم تنقطع عن حواضر العالم الإسـ.ـلامي طوال قرون.
فقد عرف المسلمون الأعياد وكانت عندهم مواسم للبهجة والمرح والتلاقي الاجتماعي، كما كانت عبادةً وقُرُبات ونُسُكاً
وقـ.ـوة وفتوّة وعرضا للمكتسبات السياسية والعمرانية التي أنجزتها الدولة والمجتمع.
كانت الأعياد دفعة أفراح وابتهاج غامرة في حواضر العالم الإسـ.ـلامي، حتى لكأن المسلمين في أيام أعيادهم لا يشغلهم سوى المفاكهة والحياة السعيدة.
لقد كان رائد المسلمين في هذ السلوك البهيج هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرشد أمته لطرائق البهجة النبيلة
وكان يحرص على أن يكون هو ومن حوله أشدَّ الناس فرحا بالأعياد، والحقُّ أن مبعث ذلك هو التوازن بين الروح والمادة والمرح والجدة الذي أقام بنيانَ العمران والاجتماع الإسلامي؛ وفي هذا المنـ.ـحى يتـ.ـنزُّل هذا المقال راصـ.ـدا ملامح بهجة الأعياد في تاريخ المسلمين!
فرحة نبوية
منذ فجـ.ـر الإسلام؛ كانت فرحة العيد تسبقُه قبل أن يحلّ فكانت ليلة تحرّي الهلال ليلة أُنْس وحُبور
وكان عيدُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه متواضعًا بسيطًا لكنّه أخذ من المَسرّات حظًّا وافرًا ليكون يوم الجمال التامّ في كل شيء بأمر من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج الحاكم (ت 405هـ/1015م) -في ‘المستدرك‘- أن الحسن بن عليّ (ت 49هـ/670م) قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجودَ ما نَجِدُ، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد”!
وكان النبي صلى الله عليه وسلم “يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، فإذا رجع رجع من الطريق الأخرى”؛ كما روى الشافعيُّ (ت 204هـ/820م) في كتابه ‘الأمّ‘.
وكان له يوم العيد ما يشبه الموكب؛ فقد أخرج البخاريّ (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- أنه صلى الله عليه وسلم كان “إذا خرج يوم العيد أمر بالحـ.ـربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها..، فمن ثـَمَّ اتخذها الأمراء”.
وقد ذكر غيرُ واحدٍ من المؤرخين هذه الحـ.ـربة؛ فقال الواقديّ (ت 207هـ/823م) -فيما نقله عنه السمهودي (ت 911هـ/1505م) في ‘وفاء الوفا‘- إنها “كانت للزبير بن العوام (ت 36هـ/657م) -أعطاه إياها النجاشي (ت 9هـ/631م)- فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخرج بها بين يديه يوم العيد”.
وكان حملُها بين يديْ النبيّ ثم خلفائه من بعده شرفًا يُحفظ فيتوارثه الخـ.ـلفاء والملوك؛ فقد ذكر ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- أن سعدًا القرظي (ت 39هـ/660م) “كان مؤذن مسجد قبا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ولي عمر (ت 23هـ/645م) الخـ.ـلافة ولاه أذان المسجد النبوي
وكان أصله مولى لعمار بن ياسر (ت 37هـ/658م)، وهو الذي كان يحمل العَنَزة (= الحـ.ـربة) بين يدي أبي بكر (ت 13هـ/634م) وعمر وعليّ (ت 40هـ/661م) إلى المصلى يوم العيد، وبقي الأذانُ في ذريته مدة طويلة”.
وجاء في تكملة خبر الواقدي المتقدم استمرار وجود هذه الحـ.ـربة لدى الأمراء خلال القرن الأول من دولة العباسيين؛ فقال: “وهي (= حـ.ـربة النبي) اليوم بالمدينة عند المؤذنين، يعني يخرجون بها بين يديْ الأئمة (= الأمراء) في زمانه”؛ أي زمان الواقدي.
وكانت الفرحةُ بالعيد زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم عامّة، إذ روى صاحبا الصحيحين وغيرهما عن أم عطية الأنصارية (ت نحو 70هـ/690م) “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُخرج الأبكار والعواتق (= الفتيات) وذوات الخُدور والحُيَّض في العيدين
فأما الحُيَّض فيعتـ.ـزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين”؛ (وهذا لفظُ الترمذيّ ت 279هـ/892م).
وكانت صلاةُ العيد تسبق خطبتَه حتى جاء الأمويون وصار الناس ينفـ.ـضون عن خطبهم السياسية بعد انقـ.ـضاء الصلاة، وأرادوا حملهم على البقاء لسماعها فكان “أولَ من بدأ بالخطبة يوم العيد -قبلَ الصلاة- مروان (بن الحكم ت 65هـ/685م)”؛ كما في ‘صحيح مسلم‘.
ولم يخلُ العيدُ في الزمن النبويّ من اللهو واللعب؛ إذ أخرج البخاريّ عن عائشة (ت 58هـ/678م) أنها قالت: “دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث (= آخر معركة بين الأوس والخزرج 617م)
قالت: وليستا بمغنيتين؛ فقال أبو بكر: أمزاميرُ الشيـ.ـطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك في يوم عيد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا”.
وزاد البخاري في رواية أخرى: “قالت: وكان يوم عيد يلعب السودان بالدَّرَق (= التـ.ـروس الجلدية) والحـ.ـراب، فإمّا سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وإمّا قال: «تشتهين تنظرين؟»، فقالت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده”.
مراسم محدثة
مع تطور مراسم الدولة الإسـ.ـلامية؛ صارت لصلاة العيد -وكان السـ.ـلاطين هم أئمتها- وخطبته ترتيبات أكبرُ وأعظم، حتى روى القـ.ـاضي التنوخي (ت 384هـ/995م) أنه “كان يقال: من محاسن الإسـ.ـلام: يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطَرَسوس”!
وكانت الصلاة تُعــ.قد في أماكن مفتوحة ومحددة وبعضها معيّن بأسماء غير بعيدة من أسماء الساحات العامة بمدننا اليوم؛ ففي ‘المسالك والممالك‘ للإصْطَخْري (ت 346هـ/957م) أن “مصلى رسول الله الذى كان يصلي فيه الأعياد [يقع] في غربي المدينة”
وفي بغداد يخبرنا التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- أن “مصلى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام”
وفي مصر يقول المقريزي -في ‘الخطط والآثار‘- أن “مصلى خولان.. [كان هو] مشهد الأعياد ويؤم الناس ويخطب لهم.. في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م)”
وفي دمشق كانوا يصلون بساحةٍ تُدعى ‘الميدان الأخضر‘، ذكرها ابن تَغْرِي بَرْدِي (ت 874هـ/1470م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- حين وصَف صلاة العيد فقال: “وأطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر”.
وربما تتعدد صلوات العيد في المدينة الواحدة بتعدد المذاهب الفقهية فيها، كما كان يحصل في مدينة سَقْسين ببلاد الخزر -وهي المنطقة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود- التي يقول عنها القزويني (ت 632هـ/1235م) -في ‘آثار البلاد‘-
إن “أهلها مسلمون، أكثرهم على مذهب الإمام أبي حنيفة (ت 150هـ/767م)، ومنهم من هو على مذهب الإمام الشافعي.
وفيها جوامع لكل قوم جامع يصلون فيه، ويوم العيد تُخرَج منابر، لكل قوم منبر يخطبون عليه ويصلون مع إمامهم”.
ومن المواقف الطريفة المرتبطة بصلوات العيد ما وقع في إحداها بالمغرب الأقصى أيام السلـ.ـطان أبي العباس الوطاسي (ت نحو 960هـ/1552م)؛ فقد ذكر الناصري السلاوي (ت 1315هـ/1898م) -في ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘-
أن “الناس خرجوا يوم العيد للصلاة فانتظروا السـ.ـلطان فأبطأ عليهم ولم يأتِ إلى [حينِ] خروجِ وقت الصلاة، وحينئذ أقبل السـ.ـلطان.. في أبّهته فلما انتـ.ـهـى إلى المصلى نظر الشيخ أبو مالك (= عبد الواحد بن أحمد الونشريسي ت 955هـ/1548م) فرأى أن الوقت قد فات، فرقِي المنبرَ وقال:
معشر المسلمين أعظم الله أجركم في صلاة العيد فقد عادت ظهرا! ثم أمر المؤذنَ فأذّن وأقام الصلاة، فتقدم الشيخ أبو مالك وصلى [بـ]ـالناس الظهر، فخجل السلـ.ـطان أبو العباس واعترف بخطيئته”!!
وكان من الاحتفالات القديمة -والمستمرة حتى الآن- كسوةُ الكعبة المشرَّفة في عيد الأضحى خاصّة؛ فقد قال الفاسي (ت 832هـ/1429م) -في ‘شفاء الغرام‘-
إن “الكعبة تُكسى -في عصرنا هذا- يومَ النحـ.ـر من كل سنة، إلا أن الكسوة في هذا اليوم تسدل عليها من أعلاها، ولا تُسْبل حتى تصل إلى منتهاها -على العادة- إلا بعد أيام من يوم النحـ.ـر”.
ويبدو أن تلك العادة كانت مختلفةً قليلًا عما عُهِد قبل ذلك بقرون؛ فقد قال الفاسي معقّبًا: “وذكر ابن جبير [في رحلته] ما يقتـ.ـضي أن الكعبة لا تُكسى في يوم النـ.ـحر، وإنما تُكسى في يوم النَّفَر الثاني (= ثالث أيام التشريق)”.
ويبدو استذكار الأحـ.ـزان في العيد عريقا في تاريخنا؛ فعادة زيارة المقـ.ـابر في الأعياد ضـ.ـاربة الجذور رغم عد.م وجود أصلٍ شـ.ـرعيّ لها.
ولعلّ ذلك أثـ.ـار حفيظة السلـ.ـطة في بعض الأزمنة، إذ رأت فيه تنغيـ.ـصًا غير مرغوب فيه لفرحة العيد؛ فالمقريزي يحدثنا -في ‘الخطط والآثار‘- أنه في سنة 402هـ/1012م أصدر الفاطميون قرارا رسميا بـ”مـ.ـنع النساء من زيارة القـ.ـبور فلم يُـرَ في الأعياد بالمقـ.ـابر امرأةٌ واحدةٌ”.
ثم تكرر الأمر أيام المماليك، حيث يقول المقريزي -في ‘السلوك‘- إنه في 29 رمضان 792هـ/1390م “نودي في القاهرة بمـ.ـنع النساء من الخروج يوم العيد إلى التُّرَب (= المقابر)”.
مراكب ومواكب
كانت المواكب الرسمية من أهمّ مشاهد العيد التي كانت الدولة تحرصُ عليها، وتظهر من خلالها هيبتها وقـ.ـوتها واعتداد حكامها بأبهة سلـ.ـطانهم، وفي تفاصيلها العجبُ العجاب.
فقد أورد ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- ضمن رصده لأخبار الخـ.ـليفة العباسي المقتفي (ت 555هـ/1160م) أنه “خرج يوم العيد (= عيد الفطر 553هـ/1158م) الموكبُ بتجمُّل وزِيٍّ لم يُرَ مثله من الخيل والتجافيف (= ما تُلبَسُه الخيل ليقيها الجـ.ـراح) والأعلام وكثرة الجـ.ـند والأمراء”!
وكانت للعباسيين طقوسٌ في العيد سبق منها حملُ الحـ.ـربة التي تُنسب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتشبهه أيضًا “البردة” المنسوبة إليه والتي “توارثـ[ـها] بنو العباس..
خلَفًا عن سلف، [فـ]ـكان الخـ.ـليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضـ.ـيب المنسوب إليه (= النبي) في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصـ.ـدع به القلوب ويبهر به الأبصار، ويلبسون السواد [وهو شعارهم] في أيام الجمع والأعياد”.
وكان العيدُ أحيانا مناسبةً لتذكير الأمّة بمقام الخـ.ـليفة باعتباره الملك المتعالي على رعيّته حتى كبار موظفيه وخاصته، فلم يكن من عادته أن يجلس أحد بجواره يوم العيد
فقد جاء عند الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن قـ.ـاضي الفاطميين عبد العزيز بن محمد بن النعمان (ت 401هـ/1011م) “عَلَتْ رُتبته عند [خلـ.ـيفتهم] الحاكم (ت 411هـ/1021م) إلى أن أصعَده معه عَلَى المنبر في يوم العيد”.
ومن عجبٍ أن تجد عد.م إجلاس أحدٍ إلى جوار الحاكم الأعلى أو سيره بمحاذاته في الموكب أمرًا ينافح عنه المؤرخون؛ يقول ابن تَغْرِي بَرْدِي: “وفيها (= 289هـ/902م) صلّى [الخليفة] المكتفي (ت 295هـ/907م) بالناس يوم عيد النـ.ـحر، وكان بين يديه ألوية الملوك، وترجّل الملوك والأمراء بين يديه ما خلا وزيرُه القاسم بن عُبيد الله (ت 291هـ/904م) فإنه ركب وسايره دون الناس
ولم يُرَ قبل ذلك خلـ.ـيفةٌ يسايره وزير غيره”! ثم يضيف ابن تغري بردي معقّبًا: “وهذا أوّل وهنٍ وقع في حقّ الخـ.ـلفاء! وأنا أقول: إنّ المعتضد (ت 289هـ/902م) هو آخر خـ.ـليفة عـ.ـقد ناموس (= صان هيبتها) الخـ.ـلافة، ثم من بعده أخذ أمر الخلفاء في إدبار إلى يومنا هذا”!!
رغم أنّ الصحابة الكرام كـ.ـرهوا حمل السـ.ـلاح في العيد -إلا ما كان من شأن الحـ.ـربة النبوية- حتى بوَّبَ الإمام البخاريّ -في صحيحه- بقوله:
“باب ما يُكـ.ـره من حمل السـ.ـلاح في العيد والحَـ.ـرَم”؛ فقد تأصّل -منذ حكم الأمويين- تقليدُ تنظيمِ الاستعـ.ـراض العسكريّ.
ثم لم يلبث خلفاؤهم أن جعلوا حمل السـ.ـلاح من مظاهر العيد؛ فقد ذكر المؤرخ ابن الأثير أن الخليفة يزيد بن الوليد (ت 126هـ/744م) كان “أول من خرج بالسـ.ـلاح يوم العيد، خرج بين صَفَّين عليهم السـ.ـلاح”! ثم صارت هذه عادةً تـ.ـواطأ عليها الخـ.ـلفاء والملوك حتى من أعـ.ـداء بني أمية كبني العباس والفاطميين.
فهذا إبراهيم بن محمد البيهقي الكاتب (ت نحو 320هـ/933م) يحدثنا -في ‘المحاسن والمساوئ‘- عن استعـ.ـراض عسكري هائل نظمه الخليفة المعتصم (ت 227هـ/843م)؛ فيقول:
“حضر العيدُ فعبَّى المعتصم بالله خيله تعبيةً لم يُسمع بمثلها ولم يُرَ لأحد من ولد العباس شبيهٌ بها، وأمر بالطريق فمُسح من باب قصره إلى المصلى، ثم قسم ذلك على القُوّاد وأعطى كلَّ واحد منهم مَصافَّه (= موقعه بالصف)
فلما كان قبل الفطر بيوم حضر القـ.ـواد وأصحابهم في أجمل زي وأحسن هيئة فلزموا مصافَّهم منذ وقت الظهر إلى أن ركب المعتصم بالله إلى المصلى..
ولبس ثيابه وجلس على كرسي ينتظر مُضِي القـ.ـواد، فلما انقـ.ـضى أمرُهم تقدم إلى الرجالة في المسير بين يديه، فتقدم منهم سبعة آلاف ناشب (= رامٍ) من الموالي كل ثلاثمئة منهم في زي مخالف لزي الباقين”!!
ويذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- عرْضا مشابها للسابق وقع 549هـ/1155م؛ فيقول إنه “خرج العسكر في عيد الفطر على زي لم يُرَ مثله لاجتماع العساكر وكثرة الأمراء”!! بل وصارت مواكب العسكر ذاتَ حـ.ـرمةٍ بالغة، يُعـ.ـاقب المتسبب في تخـ.ـريبها بالمـ.ـوت
قال الذهبيّ في ‘تاريخ الإسلام‘ ضمن أحداث سنة 528هـ/1134م: “ثمّ إنّ الخـ.ليفة (= المسترشد بالله ت 529هـ/1135م) خَـ.ـلَع على الأمراء (= كساهم كُسوة العيد)، وعرَض الجيـ.ـشَ يوم العيد، ونادى: لا يختلط بالجـ.ـيش أحد، ومن ركب بَغْلًا أو حمارًا أُبيح دَ.مُه”!!
عروض منوعة
من أمتع مشاهد تقاليد العيد في المجتمعات الإسلامية تلك التي رصدها بدقة الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1378م) في مختلف بقاع الإسلام وضمّنها رحلته الشهيرة.
ومنها مشهد العيد في إحدى سلـ.ـطنات بلاد الروم [تركيا اليوم]؛ حيث يقولك “وأظلنا عيد الفطر (733هـ/1333م) بهذه البلدة فخرجنا إلى المصلى، وخرج السلـ.ـطان (يَنَنْج بك ت بعد 338هـ/1337م) في عساكره والفتيان الأخِية (= جماعات الفتوة) كلهم بالأسـ.ـلحة
ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار، وبعضهم يفاخر بعضا ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشِّكة (= السـ.ـلاح)
ويخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز، فيذبـ.ـحون البهائم بالمقـ.ـابر ويتصدقون بها بالخبز، ويكون خروجهم أولا إلى المقـ.ـابر ومنها إلى المصلى.
ولما صلينا صلاة العيد دخلنا مع السلـ.ـطان إلى منزله، وحضر الطعام فجُعل للفقهاء والمشايخ والفتيان سماطٌ على حدة، وجُعل للفقراء والمساكين سماط على حدة، ولا يُرَدُّ على بابه في ذلك اليوم فقير ولا غني”!
ومن أعجب ما رُؤي في مواكب الملوك إحضارُ الحيوانات البريّة والأسود وغيرها لاستعـ.ـراضُها أمام الموكب؛ فالجاحظ (ت 255هـ/869م) يخبرنا -في ‘الحيوان‘- عن مشاهداته في أحد الأعياد قائلا:
“خرجتُ يوم عيد فلما صرت بعيساباذ (= منطقة كانت ببغداد) إذا أنا بتَلٍّ مُجَلَّل بقُـ.ـطوع ومقطّعاــ.ت، وإذا رجال جلوس عليهم أسلـ.ـحتهم، فسألت بعض من يشهد العيد فقلت: ما بال هذه المَسْلَـ.ـحَة (= الحـ.ـراس) في هذا المكان وقد أحاط الناس بذلك التل؟ فقال لي: هذا الفيل”!
وقد سجّل المقريزيّ -في ‘اتّعاظ الحنفا‘- مشاهد عيد سنة 395هـ/1004م فذكر أنه “ركب [الخـ.ـليفة] الحاكمُ يوم عيد الفطر..، وقُيّدَ بين يديه ستةُ أفراس -بسروج مرصّعة بالجوهر- وستة فيَلة وخمسُ زرافات
فصلى بالناس صلاة العيد وخطبهم”! كما ذكر ابن بطوطة استخدام الفيلة في احتفالات المسلمين الهنود بأعيادهم
فقال إنه “إذا كانت ليلة العيد بعث السلــ.طان إلى الملوك والخواص وأرباب الدولة والأعزة (= ضيوفه من الغرباء).. الخِلَع (= الثياب التي يُهديها السـ.ـلطان) التي تعمُّهم جميعا، فإذا كانت صبيحة العيد زُينت الفيلة كلها بالحرير والذهب والجواهر، ويكون منها ستة عشر فيلا لا يركبها أحد إنما هي مختصة بركوب السلــ.طان”!
ولئن كان أكثر الخـ.ـلفاء والأمراء يبالغون في مظاهر البهرجة والتفاخر في الأعياد، فلم يُعد.م من يرى الفخر الحقيقيّ بالإنجازات العملية لصالح الشعوب والأوطان
فقد ترجم سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- للقـ.ـائد البويهي أبي الطاهر المشطّب المُلقّب بالسعيد (ت 408هـ/1018م) فقال فيه:
“وكان السعيد سعيدًا كما سُمِّي، كثيرَ الصدقات فائضَ المعروف كثيرَ الإحسان، حتى إنَّ أهل بغداد إذا رأوا مَنْ لبس قميصًا جديدًا قالوا: رحمَ اللهُ السعيدَ
لأنه كان يكسو اليتامى والمساكين والضعفاء، وهو الذي بنى قنطرة العراق وقنطرة الخـ.ـندق -عند باب حـ.ـرب- والياسرية والزياتين وغيرها..
وأخرج الإسْفَهْسِلَارِيَّةُ (= قـ.ـادة العسكر) يومَ العيد الجنائبَ (= خيول تُعرَض غير مركوبة) بمراكب الذهب وأظهروا الزينة، فقال له بعض أصحابه: لو كان لنا شيءٌ أظهرناه! فقال له السعيد: إنه ليس في جنائبهم قنطرةُ الخندق والياسرية والزياتين”!!
وكان من زينة العيد عندهم أن يصنعوا الخيام والقباب، وكانت هذه القبابُ مقرّات للاحتفال ومكانا للأكل والشراب واللهو
ويُبذل في صناعتها وتزيينها ما يثيرُ العجب! ويصفُ لنا بتفصيل جميل الإمامُ ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- خيمة الخلـ.ـيفة بعيد أضحى؛ فيقول إنه في “يوم النحـ.ـر (520هـ/1126م) أمر أمير المؤمنين [المسترشد بالله] بنصب خيمة كبيرة وبين يديها خيمة أخرى..
ونصبوا في صدر الخيمة منبرا عاليا، وحضر خواص الخـ.ـليفة ووزيره والنقباء وأرباب المناصب والأشراف والهاشميون والطالبيون وخَلقٌ من الوجوه (= الأعيان)
وأقبل الخليفة -ومعه ولده الراشد (ت 530هـ/1136م) وهو ولي عهده- فوقف إلى جانب المنبر وصلى بالناس صلاة العيد، وكان المكبِّرون خطباء الجوامع”.
أما إذا اقترن العيدُ بانتصارٍ عسكريّ فإنّ الزينة تتضاعف ويُبالغ في الاحتفاء بالقـ.ـادة العسكريين
فهذا الإمام الذهبي يرسم لنا -في ‘تاريخ الإسلام‘- صورة لاجتماع العيد والنصر في يوم واحد، والقِبَاب العجيبة الاختراع التي أنشئت للاحتفالات بذلك سنة 547هـ/1152م:
“ثمّ عاد [الخلـ.ـيفة المقتفي] إلى بغداد مؤيَّدًا منصورا [بإنهائه فتنة نشبت في واسط]، فغُلِّقت بغداد وزُيِّنَتْ وعُمِلَت القَبَاب
وعمل الذَّهَبيّون (= صاغة الذهب) بباب الخان العتيق قُبَّة عليها صورة [السلـ.ـطان السلجوقي] مسعود (ت 547هـ/1152م) وخاصّ بك (القـ.ـائد التركماني ت 548هـ/1153م) وعبّاس (= عباس الشِّحْنَة/مدير الأمـ.ـن العام ت 541هـ/1146م) بحَرَكاتٍ تدور، وعُملت قباب عديدة عَلَى هذا النّموذج.
وانطـ.ـلق أهل بغداد في اللّعب.. واللَّهْو إلى يوم عيد النَّحْـ.ـر [من السنة نفسها]”!!
موائد وعوائد
ربما كانت أطايب الطعام والشراب أبهجَ ما في العيد بالنسبة لكثيرين، ولذا كان للأقدمين بها شغفٌ وفنٌّ وتاريخ عريض
فقد نقل السيوطي (ت 911هـ/1506م) -في ‘تاريخ الخـ.ـلفاء‘- عن أحد جلساء الخلـ.ـيفة المأمون (ت 218هـ/833م) وصفا عجيبا لتنوّع مائدته وخبرته بالطعام وفوائده الصحية
فقال: “تغدينا مع المأمون في يوم عيد فوضع على مائدته أكثر من ثلاثمئة لون، قال: فكلما وضع لون نظر المأمون إليه
فقال: هذا نافعٌ لكذا، ضـ.ـارٌّ لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليتجنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا”!!
أما الفاطميون فكانوا ذوي عنايةٍ بالحلويات والمرطّبات حسبما يخبرنا به المقريزيّ بتصويره صبيحةَ عيدٍ بقصر الخلـ.ـيفة الفاطميّ الآمر (ت 524هـ/1130م)
فقال: “فلما أصبح الصباح كان قد حُمل من القصر في الليل طوافير (= صحون عميقة) فيها عدة موائد للفطر في يوم العيد، وحُمل برسم فطر الخليفة الصواني الذهب…
فلما كان السحـ.ـر من عيد الفطر جِيءَ بين يدي الخلـ.ـيفة بما أحضِر من قصوره في مواعينه الذهب المرصَّعة -وعليها المناديل المُذْهبة- من التمر المحشو والجوارشيات (= نوع من الحلوى) بأنواع الطيب وغير ذلك”.
وقد كانت موائدُهم -وخاصة في العيد- عامرةً بأصناف الأطعمة والحلويات، على نحو ما نجد وصفه عند ابن تغري بردي لمائدة الخـ.ـليفة الفاطميّ العزيز
ففي أحد الأعياد “نُصب إلى فسقية (= حوض ماء فيه نافورة) كانت في وسط الإيوان سماط (= مائدة طولية) طوله عشرون قصبة، عليه من الخُشْكَنان (= خبزة مقلية محشوة)
والبِسْتَنْدود (= فطائر محشوة)، والبزماورد (= حلوى عجين بالسكر) مثل الجبل الشاهق! وفي كلّ قطعة منها ربعُ قنطار فما دون ذلك إلى رطل؛ فيدخل الناس فيأكلون ولا منـ.ـع ولا حجر..، بل يفرّق على الناس ويحمل إلى دورهم”.
ثم ذكر أن العزيز “كان أوّل من رتّبها في عيد الفطر خاصّة”.
ويستفيضُ في الوصف بعد ذلك قائلًا: “وأمّا سماط الطعام ففي يوم عيد الفطر اثنتان.. وفي عيد النحر مرّة واحد، ويُعبّى السّماط في الليل، وطوله ثلاثمئة ذراع (= 184م تقريبا) في عرض سبع أذرع
وعليه من أنواع المأكل أشياء كثيرة؛ فيحضر إليه الوزير أوّل صلاة الفجر والخـ.ـليفة جالس في الشبّاك، ومُكّنت الناس منه فاحتملوا ونهبوا ما لا يأكلونه، ويبيعونه ويدّخرونه، وهذا قبل صلاة العيد.
فإذا فرغ من صلاة العيد مدّ السّماط المقدّم ذكره فيؤكل، ثمّ يُمَدُّ سماطٌ ثانٍ من فضّة يقال له المدوّرة، عليها أواني الفضّة والذهب والصّيني، وفيها من الأطعمة الخاصّ ما يُستحى من ذكره.
والسّماط بطول القاعة؛ وهو خشب مدهون.. عرضه عشر أذرع.
ويُحطّ في وسط السماط واحد وعشرون طبقا في كلّ طبق واحد وعشرون خروفا؛ ومن الدجاج ثلاثمئة وخمسون طائرا، ومن الفراريج مثلها، ومن فراخ الحمام مثلها.
وتتنوّع الحلوى أنواعا؛ ثم يمدّ بخلل تلك الأطباق أصْحُنٌ خزفيّات في جنبات السّماط، في كلّ صحن تسع دجاجات في ألوان فائقة من الحلوى، والطّباهجة (= الكباب) المفتقة بالمسك الكثير.
وعدّة الصحون خمسمئة صحن، مرتّب كلّ ذلك أحسن ترتيب.
ثم يؤتى بقصرين (= عربتين) من حلوى قد عُملا بـ‘دار الفطرة‘ (= مخزن حكومي لصنع وتوزيع الحلويات)، زنة كلّ واحد سبعة عشر قنطارا (= اليوم 650 كلغ تقريبا)..
ثم يخرج الوزير ويذهب إلى داره؛ ويُعمل سماط يقارب سماط الخـ.ـليفة، وهكذا يقع في عيد النحـ.ـر في أوّل يوم منه”!
الجزيرة نت