السد القـ.ـاتل.. هل يشعل سد النهضة حـ.ـربا في شمال شرق إفريقيا؟
لن يكون من المبالغة القول إن سد النهضة هو أكبر خطـ.ـر يُهدِّد أمـ.ـن مصر القومي في الوقت الراهن

السد القـ.ـاتل.. هل يشعل سد النهضة حـ.ـربا في شمال شرق إفريقيا؟
أخبار اليوم
فريق المتابعة والتحرير
السودان أكثر تشـ.ـددا مع إثيوبيا في قضية السد
العلاقات المصرية الإثيوبية منذ سد “تيس أباي”
السد القـ.ـاتل
حـ.ـدّ النيل وعمرو بن العاص
حادثة جفاف النيل
تُواجـ.ـه مصر منذ عقد تقريبا أشبـ.ـاح كـ.ـارثة مُحتمَلة قد تتسبَّب في خـ.ـسائر فـ.ـادحة على مستوى العمران والزراعة بل والبشر في مصر، تَتمثَّل في سد النهضة الإثيوبي وأثره المُحتمَل على حصة مصر من مياه النيل.
وللمفارقة، فإن الخطـ.ـر المائي الذي يُواجِه مصر اليوم يُذكِّرنا بكـ.ـوارث تاريخية كابـ.ـدتها الأمة المصرية العريقة حين جفَّ النيل وتوقَّف عن الجريان في مناسبات عدة، لعل أشهرها تلك التي وقعت في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الذي عُرفت سنوات محنته بـ “الشدة المستنصرية”.
ولا يزال العقل الجمعي في مصر يستحضر وقائعها رغم مرور ألف سنة على حدوثها بسبب بشـ.ـاعتها وقـ.ـسوتها.
السودان أكثر تشـ.ـددا مع إثيوبيا في قضية السد
ظل السودان عالقاً وسط خـ.ـلاف طويل الأمد بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة الأثيوبي على نهر النيل الأزرق، ولكن في الأشهر الأخيرة ظهر تحول مهم في موقف السودان، بحسب ما ورد في هذا التقرير الذي كتبته زينب محمد صالح من الخرطوم.
تحولت اللغة التي يستخدمها السودان عند مناقشة قضية سد النهضة الإثيوبي الكبير من الترحيب الواسع إلى التشـ.ـكيك والعـ.ـدائية.
ويعكس هذا التحول، في جزء كبير منه، التأثير المتزايد للجـ.ـيش على الحكومة الانتقالية، التي من المفترض أن تمهد الطريق لبناء نظام ديمقراطي بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير الذي حكم البلاد لعقود.
وتصاعدت حـ.ـدة المناقشات الدبلوماسية مع اقتراب موسم الأمطار في إثيوبيا، حيث سيجري ملء الخزان خلف السد للعام الثاني على التوالي من دون أي اتفاق بشأن كيفية ملء الخزان.
العلاقات المصرية الإثيوبية منذ سد “تيس أباي”
في عام 1941م أُعلن استقلال الحبشة، واستعادت إثيوبيا السيادة الكاملة بعد توقيع الاتفاق الأنجلو إثيوبي في ديسمبر/كانون الأول 1944، وارتقى الإمبراطور هيلا سيلاسي الحُكم (1941-1974م).
كانت العلاقات الإثيوبية المصرية على درجة من القوة والمتانة في عصر عبد الناصر- سيلاسي، ولعل هذه المتانة تعود إلى ارتباط الكنيسة الحبشية حتى عام 1959 بالكنيسة المصرية قبل أن ينفصلا.
لكن الصـ.ـدام بين البلدين كان قد بدأ في وقت مبكر من الخمسينيات حين علم المصريون أن إثيوبيا ستشرع في بناء سد “تيس أباي”، فأرسل عبد الناصر وزير خارجيته محمود فوزي إلى إثيوبيا مُحـ.ـذِّرا إياها من المساس بحصة مصر من مياه النيل، الأمر الذي رضـ.ـخت له إثيوبيا لضعف قوتها، ولقوة العلاقات مع مصر حينذاك.
لكن هذه العلاقات بدأت في التغيُّر في عهد الرئيس أنور السادات حين انضمت مصر إلى تحالف نادي السفاري المنـ.ـاهض للشيوعية سنة 1975، الذي اعتبره منجستو مريام، الزعيم الجديد المنقـ.ـلب على سيلاسي آنذاك، مـ.ـؤامـ.ـرة مصرية ضـ.ـد إثيوبيا.
وحين رأى السادات بعض المحاولات الإثيوبية المضادة لبناء عدد من السدود، خرج بتصريحه الشهير: “إننا لن ننتظر حتى نمـ.ـوت من العطش، بل سنذهب لنمـ.ـوت هناك في إثيوبيا”.
ومن ذلك الحين توتـ.ـرت العلاقات المصرية الإثيوبية، حتى وصلت إلى قطـ.ـيعة شبه تامة في أعقاب محاولة اغتـ.ـيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995.
كانت المحاولة الأولى والحقيقية لإنشاء خزان يحول دون تدفُّق مياه النيل إلى مصر والسودان قد بدأت مع العقود الأولى من القـ.ـرن العشرين.
فقد شغل مشروع بناء خزان بحيرة تسانا الحكومة المصرية والرأي العام المصري سنة 1933، عندما عُقد مؤتمر في أديس أبابا ضمَّ مصر وإثيوبيا والسودان والشركة الهندسية الأميركية التي أُسند إليها بناء مشروع الخزان.
وكانت بريطانيا هي القوة الرئيسية الداعمة لهذا المشروع لأهـ.ـداف سياسية بحتة، تتمحور حول الحفاظ على نفوذها ومصالحها في إثيوبيا وحماية منابع النيل الإثيوبية من أطـ.ـماع الدول المنافسة لها.
كانت بريطانيا حريصة دوما على أن تظل منابع النيل الإثيوبية في مأمن من وقوعها في أيادٍ أجنبية قد تكون معـ.ـادية لها، لكنها كانت حريصة في الوقت نفسه على عدم الإضـ.ـرار بمصالحها في مصر والسودان، لذلك فإن اعتراضات القاهرة والخرطوم على المشروع الإثيوبي لاقت آذانا مصغية لدى الجانب البريطاني، ما أدَّى إلى و.أد المشروع في مهده، لا سيما مع تكلفته الباهظة للغاية.
منذ عام 1981، سعت إثيوبيا لاستصلاح 227 ألف فدان في حوض النيل الأزرق، ومن أجل تنفيذ هذا الهـ.ـدف شرعت في تنفيذ عدد من المشروعات مثل مشروع سد “فيشا” -أحد روافد النيل الأزرق- الذي يُؤثِّر على حصة مصر من مياه النيل بنحو 0.5 مليار متر مكعب سنويا، ومشروع “سنيت” على أحد روافد نهر عطبرة.
السد القـ.ـاتل
لكن أخطـ.ـر تلك الأز.مات التي وقعت بين دول المنبع ودول المصب ظهرت في مايو/أيار 2009 في المؤتمر الذي عقده وزراء مياه دول حوض النيل في “كينشاسا” عاصمة الكونغو الديمقراطية، في غياب مصر والسودان، وكان العلامة الرئيسية على تمرُّد دول المنبع على الفيتو الذي طالما تمتعت به مصر والسودان حول استغـ.ـلال مياه النيل.
في تلك الفترة، ظهرت لأول مرة إلى العلن فكرة إنشاء سد ضخم على النيل الأزرق في إثيوبيا قُرب الحدود مع السودان، مقترح سرعان ما وضعته أديس أبابا موضع التنفيذ تحت اسم سد الحـ.ـدود، قبل أن تُغيِّر اسمه إلى سد الألفية العظيم، وأخيرا سد النهضة.
تعود جذور سد النهضة إلى خطة أميركية قديمة طُرحت عام 1957، حين كُلِّف مكتب الاستصلاح التابع لوزارة الداخلية الأميركية للمشاركة في مشروع مشترك بعنوان “البرنامج التعاوني للولايات المتحدة الأميركية وإثيوبيا لدراسة حوض النيل الأزرق”، واستمرت تلك الدراسة المكثَّفة للمشروع لمدة خمس سنوات (1958-1964).
وكان ذلك إبّان بناء السد العالي في مصر (1960-1970). حـ.ـدَّد المكتب الأميركي 26 موقعا لإنشاء السدود، أهمها أربعة سدود على النيل الأزرق الرئيسي: كرادوبي، ومابيل، وماندايا، وسد الحـ.ـدود/النهضة بإجمالي قدرة تخزين 81 مليار متر مكعب.
استفادت إثيوبيا من تلك الدراسات الأميركية السابقة، وبدأت بالفعل في بناء السد على بُعد عشرين كيلومتر من الحـ.ـدود السودانية الإثيوبية.
واضطرت مصر منذ العام 2011 إلى الدخول في مفاوضات عقيـ.ـمة مع الجانب الإثيوبي قبل أن يُعلن توقيع اتفاق المبادئ بين كلٍّ من مصر والسودان وإثيوبيا، الذين تعهَّدوا بالاستخدام العادل للمياه والامتناع عن الإضـ.ـرار بمصالح بعضهم بعضا.
وبحسب بعض الخبراء فإن “اتفاق المبادئ” المُبرم بشأن سد النهضة لا يرقى إلى مستوى التعاقد القانوني بين مصر وإثيوبيا، نظرا إلى وجود اتفاق سابق للتفاهم بين البلدين عُقد عام 1993 ولم يُعمَل به، وكانت إثيوبيا قد تعهَّدت فيه بعدم المساس بحصة مصر المائية أو بناء سدود من دون إخطار سابق ولم يُلتَزم بهذا الاتفاق.
تُشير البيانات إلى أن سد النهضة سيكون قادرا على تخزين ما مقداره 74 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق، الأمر الذي سيُؤثِّر بصورة مباشرة على حصة مصر المائية ومقدارها السنوي 55 مليار متر مكعب، التي لم تعد تُلبِّي التحـ.ـديات والمتطلبات المصرية كافة بسبب عوامل عدة على رأسها الزيادة السكانية.
في حوار له على قناة “سكاي نيوز عربية” في فبراير/شباط 2014، عدَّد وزير الري المصري الأسبق محمد علام مكامن خطـ.ـورة سد النهضة على مصر، في مقدمتها تبوير مساحات هائلة من الأرض الزراعية تزيد على مليونَيْ فدان في السنوات الثلاث الأولى من ملء سد النهضة، وترتفع إلى 4 ملايين فدان في السنة الرابعة والخامسة.
كما سيؤدي بناء سد النهضة إلى تفريغ المياه من بحيرة السد العالي ووقف توربينات توليد الكهرباء في جسم السد وخزان أسوان، وفي غضون السنة الثالثة من ملء سد النهضة سينتهي مخزون مياه السد العالي الذي ستلجأ إليه مصر لتعويض النقص من حصتها السنوية التي ستتناقص من 55 مليار متر مكعب إلى 30 مليار متر مكعب سنويا.
والأخطـ.ـر من هذا -بحسب علام- فإن سنوات الجفاف ستُؤثِّر بشدة على مصر حتى بعد انتهاء ملء السد، وسترتفع نسبة بوار الأرض الزراعية مقدار 3 ملايين فدان أخرى.
وستُعـ.ـاني مصر في أثناء التخزين أو التشغيل طويل المدى لسد النهضة من عـ.ـجـ.ـز دائم في الحصة المائية، وسيقل منسوب المياه الجوفية في صعيد مصر من 2 إلى 3 أمتار.
وبالنسبة لدلتا مصر في الشمال فستُعـ.ـاني من ملوحة شديدة تُـ.ـد.مِّر نسبة كبيرة من رقعة الأرض الزراعية نتيجة انخفاض منسوب مياه النيل ودخول مياه البحر المتوسط إلى فرعَيْ دمياط ورشيد.
هناك أيضا مخـ.ـاطر إضافية تناولتها بعض الدراسات، وعلى رأسها “لجنة العشرة” الدولية المكوَّنة من خبراء من البلدان الثلاثة إضافة إلى خبراء دوليين، التي قدَّمت تقريرها في منتصف عام 2013.
ويؤكِّد أن مُعامل أمان سد النهضة غير معروف على وجه الدقة حتى اللحظة الراهنة، ما يفتح الباب على مصـ.ـراعيه أمام احتمالات تصـ.ـدُّع السد وانهمار المياه منه شمالا لإغراق السودان وجنوب مصر، خاصة أن سد النهضة يقع في منطقة الأخدود الأفريقي العظيم، وهي المنطقة التي ترتفع معها احتمالية حدوث الزلـ.ـازل والتصـ.ـدُّعات.
يُعتبر النيل الأزرق القادم من منابع النيل في إثيوبيا أهم رافد لنهر النيل، حيث يُوفِّر ما نسبته 85% من حصة النيل القادمة إلى مصر، وقد أخبرنا التاريخ والواقع أن مجرد انخفاض مياه النيل أو زيادتها يُؤثِّر بصورة مباشرة على مظاهر الحياة كافة في مصر.
لذلك لن يكون من المبالغة القول إن سد النهضة هو أكبر خطـ.ـر يُهدِّد أمـ.ـن مصر القومي في الوقت الراهن.
ولحُسن الحظ، فإن التاريخ يُلقِّننا درسا قـ.ـاسيا حول ما يعنيه جفاف النيل بالنسبة إلى مصر، وهو درس يحتاج المصريون اليوم إلى أن يعوه جيدا قبل فوات الأوان.
حـ.ـدّ النيل وعمرو بن العاص
يُؤكِّد لنا التاريخ أنه لا يمكن تصوُّر أن يحيا بلد مثل مصر دون النيل، وقد ورد أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر “عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يلقى أهلها من الغـ.ـلاء عند وقوف النيل عن حدِّه في مقياسٍ لهم فضلا عن تقاصره، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتـ.ـكار، وأن الاحتـ.ـكار يدعو إلى تصاعد الأسعار بغير قـ.ـحط”.
فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال، فأجابه: “إني وجدتُ ما تُروى به مصر حتى لا يُقـ.ـحـ.ـط أهلها أربعة عشر ذراعا، والحـ.ـدّ الذي يُروى منه سائرها حتى يفضلَ عن حاجتهم ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنهايتان المخـ.ـوّفتان في الزيادة والنقصان هما اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة”.
واستمر الوضع على ذلك في مصر مع النيل، أربعة عشر ذراعا الحد الأدنى الذي إن نقص كانت المجـ.ـاعة وغـ.ـلاء الأسعار، وثمانية عشر ذراعا في الحـ.ـد الأقصى إن زاد أغرق مصر وأنتج أيضا المجـ.ـاعة وغـ.ـلاء الأسعار لغـ.ـرق المحاصيل، من أجل ذلك ارتبطت الحياة في مصر بالنيل، فلا حياة دون نيل.
حادثة جفاف النيل
والأمثلة على ذلك من التاريخ أكثر من أن تُحصى، لعل أشهرها تلك الحادثة الشنـ.ـيعة التي وقعت سنة 597هـ/1201م وذكرها المقريزي وابن تغري بردي والبغدادي في تواريخهم.
كانت هذه الحادثة حين انخفض النيل عن الجريان لثلاث سنوات كاملة، وعمَّ مصر القحـ.ـط والغـ.ـلاء الشديد إلى درجة اضطرت أهل مصر لفعل أشياء ما كان يمكن أن يُصدِّقها العقل البشري، لولا تواترها في التواريخ بتفاصيل دقيقة من مؤرخين على درجة كبيرة من الموضوعية لا سيما المقريزي وابن تغري بردي.
يقول المقريزي عن تلك المأساة: “فيها تعذَّرت الأقـ.ـوات بديار مصر، وتزايدت الأسعار، وعظم الغـ.ـلاء حتى أكل الناس الميـ.ـتات وأكل بَعضهم بعضا، وَتبع ذلك فنـ.ـاء عظيم، وابتدأ الغـ.ـلاء من أول العام وتمَادى الحال ثلاث سنين مُتوالية لا يمد النيل فيها إلا مدا يسيرا، حتى عـ.ـدمت الأقوات وخرج من مصر عالم كبير بأهليهم وأولادهم إلى الشام فمـ.ـاتوا في الطرقات جـ.ـوعا”.
كان لهذا البـ.ـلاء العظيم أثره على التعداد السكاني للمصريين، حيث قلَّ بصورة كبيرة للغاية، فضلا عن تأثيره الاقتصادي على حياة مَن تبقَّى من الناس.
فقد “كان الناس قد فـ.ـنوا بحيث بقي من أهل القرية الذين كانوا خمسمئة نفر إما نفران أو ثلاثة، فلم تجد الجسور مَن يقوم بها ولا القرى مَن يرعى مصالحها، وعـ.ـدمت الأبقار وجافت الطرقات بمصر والقاهرة وقُراهما، ثمَّ أكلت الدودة ما زُرع، فلم يوجد من التقاوى”.
المصدر: الجزيرة وأخبار اليوم